Followers

Tuesday, September 05, 2006

مسرحية خيالية .. صاحبة الفخامة رئيسة الجمهورية

مسرحية خيالية هزلية

صاحبة الفخامة رئيسة الجمهورية

المشهد الأول
السودان _ العاصمة الخرطوم _ أبريل 2016 .

تسمر الملايين في مختلف أنحاء العالم أمام شاشات التلفزيون وهم يتابعون أحداث الثورة العنيفة التي قام بها الشعب ضد نظام الحكم في السودان بعد فترة طويلة من الخضوع والاستسلام ... كان المذيع الأمريكي المتخصص في الشئون السودانية يدلي برأيه بلغة عربية فصيحة من قناة السي ان ان المعربة وموجهة ضد العالم العربي ... من خلفه كانت الشاشة العملاقة تعرض شوارع الخرطوم وهي تموج بطوفان من الوجوه الغاضبة والحناجر الصارخة وهي تحرق وتدمر .. وتقتل ...
كان هناك شبح ابتسامة سخرية في ركن شفتيه يحاول أن يخفيها باصطناع الجدية والاهتمام وهو يلوك الكلمات بلكنته الأمريكية القحة ... وملامحه الغريبة وهو يعلق على ما يحدث خلفه ...
" السودان هو البلد الوحيد الذي يعيد فيه التاريخ نفسه بتكرار نمطي غريب ... تقوم ثورة تقضي على الأخضر واليابس فتطيح بالحكومة الموجودة لتتربع بعدها حكومة الثوار الجدد المليئة بالوعود والأحلام لشعب أدمن قادته الإخلال بالوعود وإجهاض الأحلام .. تمسك بزمام الامور وسرعان ما تنسى وعودها للشعب وتبدا بتحقيق وعودها لأفرادها وخلال فترة قصير تصبح صورة مستنسخة ممن أزاحتهم وجلست مكانهم ... وهنا لم يستطع المذيع إخفاء ابتسامته وهو يواصل تعليقه الموجه ضد العالم العربي
" يا له من بلد غريب ؟؟ ويا له من شعب اغرب .. متى سيتعلمون الدرس ؟؟
متى سيتغيرون ؟؟
فجأة اتسعت عينا المذيع وصرخ وهو يثبت سماعة الأذن بيده بينما اخفت الأخرى شهقة كادت تطيح بحرفيته الإعلانية ...
يا الهي .. لقد أتانا خبر عاجل الآن يفيد بأنه قد تم اغتيال أحد ابرز قادة الثورة .. الدكتور محجوب صالح الزين وقد تم اغتياله بواسطة القوات الحكومية في منزله الكائن بمنطقة أمد رمان أثناء اجتماع كان يعقده مع مساعديه وقتل في العملية أيضا سبعة من ضباط الجيش الداعمين للثورة الوليدة وعدد من المدنيين ..
في الحال تصدرت الشاشة صورة رجل في منتصف الخمسينات تبدو عليه سيماء الوقار وتشع عيناه ببريق الذكاء والحكمة ... واصل المذيع اللاهث الأنفاس من هول ما يراه أمامه من فيضانات الدماء وأشلاء الجثث تحليله عن شان بلد لا يمت له بصلة ...
" هذه الخطوة المفاجئة من قبل الحكومة الحالية سلاح ذو حدين .. فهي من جهة قد تخمد الثورة في مهدها .. ومن جهة أخرى قد تزيد نارها استعاراً " ...
وصمت وهو يستمع للتعريف الذي صاحب الصورة ... دكتور الزين من مواليد مدينة امدرمان عام 1960م هاجر إلى سويسرا بعد مقتل والده الذي كان أحد أعمدة الحزب الشيوعي السوداني .. وقد تم إعدامه بلا محاكمة بعد أن اتهم بالخيانة من قبل الحكومة التي أحست بالخطر من تحركاته الرامية إلى إحياء نشاط الحزب الميت ومحاولة تكوين جبهة معارضة قوية في الداخل والخارج .. خصوصاً بعد أن بدأت دعوته تجد صدى لدى نخبة كبيرة من السودانيين وبالذات وسط النخبة المثقفة التي أعياها وضع البلد المتدهور في ظل الحكومة الحالية ...
تخرج دكتور الزين من جامعة هارفارد بأمريكا حيث درس الاقتصاد والعلوم السياسية ويحمل درجة الدكتوراه في تاريخ الأنظمة السودانية المتعاقبة .. متزوج وله ابنة وحيدة مقيمة بسويسرا وتعمل محقق قضائي في لجنة حقوق الإنسان التابعة لمحكمة العدل الدولية بلاهاي ... الابنة الدكتورة نادين محجوب صالح الزين البالغة من العمر 32 عاماً متزوجة من سويسري مسلم منذ ست سنوات ولها طفلين .. محجوب خمس سنوات وفاطمة ثلاث سنوات ... ظهرت على الشاشة صورة فتاة تحمل لون أبيها ولمعة ذكاء عينيه ....

نهاية المشهد الأول ...


المشهد الثاني ...
الولايات المتحدة الأمريكية ... العاصمة واشنطن ... البيت الأبيض الأمريكي ...

في المكتب البيضاوي جلست رئيسة الولايات المتحدة السيدة مارلين كينيدي بهدوء وهي تراقب بعينيها الرماديتين صقور إدارتها أثناء الجدال الحاد الذي يدور بينهم وقد انقسموا إلى فريقين بين مؤيد ومعارض للفكرة المطروحة ... كانت السيدة كينيدي امرأة جميلة في السادسة والأربعين من عمرها وصلت إلى كرسي الرئاسة بدعم من حزبها الذي اعتمد على ارث عائلتها من الحب في قلوب الأمريكان ابتداء من جدها الأكبر الذي ظل اغتياله لغزاً استعصى على الحل ... مرورا بالشائعات التي جعلت منها حفيدة مارلين مونرو وجون كينيدي من العلاقة العابرة التي تسببت بانتحارها او مقتلها على ايدي الاستخبارات الامريكية ... وانتهاء بجمالها وذكائها الحاد الذي أهلَها للسيطرة على اكبر قوة في العالم ...
طرفت عيناها الجميلتان وهي تستمع الى لهجة السناتور هاكمان المعارض لتدخل دولته في أي بلد آخر ... وكان يملك حجة قوية :
" كيف تطرحون فكرة التدخل العسكري في السودان ؟؟؟ الا يكفيكم ما حدث وما زال يحدث لنا في سوريا وايران وليبيا ، ومن قبلها العراق وافغانستان ؟؟؟ هل نسيتم فيتنام ...لقد أصبحنا نملك اكبر نسبة من الجنود المختلين عقلياً من جراء حروبنا وتدخلنّا في الدول الأخرى .. ما زال جنودنا يموتون بالعشرات كل يوم في هذه الدول ... ناهيك عن الأمراض الغامضة التي عاد بها العائدون ... مالنا نحن وهذا البلد التعيس في مجاهل أفريقيا ؟؟ ماذا نريد من بلد مثله .. ان حكامه لم يتركوا فيه شيئا لنا او لغيرنا ... كل ثرواته أصبحت نقود في بنوك سويسرا والجزر اللاتينية وحتى لدينا هنا في أمريكا ... شعبه غريب الأطوار وملئ بالتناقضات ... ما هي الفائدة المرجوة من التدخل في بلد كهذا ؟؟
رد عليه السيناتور هيو المؤيد بشدة لتدخل دولته في أي بؤرة صراع في العالم ومحاولة الاستفادة مما يحدث قدر الإمكان :
" أرجوكم كفانا تباكياً ونواحاً على ما حدث منذ عهد بعيد في فيتنام .. وما يحدث الآن في أفغانستان والعراق وسوريا وإيران ... نعم قد خسرنا الكثير .. ومعرضون لخسارة اكبر .. لكنها ضريبة المجد ... ضريبة ندفعها بكل رضا لأننا اعظم قوة في العالم ولن نتخلى عن موقعنا الذي حصلنا عليه بالمال والدماء مقابل مخاوف جبانة ... انتفخت أوداجه من تأثير كلماته المدوية على من حوله وواصل بصلف المستعمر الغبي :
" لابد أن ندخل السودان ... إنها فرصتنا التي ننتظرها منذ عقود ... تذكروا فقط كم سعينا فيما مضى لنضع أرجلنا داخل هذا البلد .. وفي كل مرة يستطيع حكامه الخلاص من مكائدنا ... لدرجة انني مندهش كيف يكونون بهذا الغباء ويستطيعون ان يجدوا مخرجاً من كل المآزق التي وضعناها لتكون ذريعة لتدخلنا ؟؟
واصل بثقة بعد ان ضمن ميلان القلوب والعقول لصالحه : " الا تدركون معنى ان يكون لنا وجود فعلي في قلب افريقيا ؟؟ انها الفرصة التي انتظرناها طويلاً .. وبرغم ما يقال عن ثروات السودان المنهوبة .. هذا البلد ما زال يعج بالثروات المدفونة التي انشغل اهله عنها بالتحارب فيما بينهم .. اذا آلت الامور الينا .. سنتمكن من استغلال كل شئ بالصورة المثلى ... كل شئ بما فيه البشر ... ان نحن غزونا السودان فستصبح كل أفريقيا لنا "
لحظتها تبدلت ملامحه بصورة غريبة الى ربان سفينة يحمل سوطاً وهو يسوس قافلة من العبيد الذين كانوا احرارا وفي اثناء غفلتهم صاروا عبيداً ...
وتعالت الاصوات مرة اخرى .. وبدت المعارضة تتوارى خلف الحماسة التي اذكاها تاجر العبيد ... وفجاة ارتفعت يد صاحبة العيون الرمادية باشارة موحية لينقطع الجدال ويسود الصمت ... نطقت بصوت عميق تتخلله بحة جذابة بنبرات واضحة :
" انا اؤيد وجهة نظر كل من سناتور هاكمان وسناتور هيو .. بدات همهمات مندهشة من هذا التصريح المتناقض فلم تعرها صاحبة العيون الرمادية اية اهمية وواصلت حديثها : " لا اؤيد التدخل العسكري المباشر ... فهؤلاء السودانيين شعب غريب ولا يمكن التكهن بردود افعالهم يؤمنون بافكار متطرفة مثل الجهاد والاستشهاد .. قد يتقاتلون فيما بينهم بضراوة .. لكن في حال دخولنا ارضهم لا نضمن ان لا يتحول الجميع ضدنا ... لقد جندنا عدداً هائلاً من الباحثين لدراسة سلوك العرب الغريب .. وجاءت نتيجة الدراسات والابحاث لتؤكد انهم يعتنقون ثقافة فريدة في نوعها مضمونها ( انا واخي ضد ابن عمي ... وانا وابن عمي ضد الغريب ) ... غزو السودان عسكرياً خطوة محفوفة بالمخاطر ولا نستطيع ان نخطوها الان خصوصا وان غزونا لسوريا وايران وليبيا برغم تبريراته القوية ... الا ان الامر لم يسلم من انتقادات وجهت لنا من بقية دول العالم ...
لحظتها تنفس السناتور هاكمان الصعداء وعلت وجهه الصارم شبه ابتسامة ... بينما ملا العبوس ملامح السناتور هيو ...
واصلت مارلين كينيدي كلامها بعد ان تفحصت ردود فعله على وجوه المحيطين بها :
لكنني اؤيد وجودنا داخل السودان بصورة او باخرى ... واتفق مع سيناتور هيو بانها بلد غني وبه ثروات هائلة لم تستغل ... لقد ارهقتنا حروبنا مع العرب والمسلمين .. وتعب الشعب الامريكي من تحمل فاتورة الدفاع عنهم .. نحتاج الى مصدر دخل جديد لتعويض النفقات ... واعتقد بانه قد آن الاوان لنرفع عن شعبنا عبْ حماية العرب من انفسهم ... لقد آن الاوان ان تتحمل دولة عربية ضريبة العروبة والدين ..
ارتفع تصفيق رتيب منغّم من يدي السناتور هيو ثم تبعه الباقون وهم يقفون احتراماً لافكار رئيستهم النيرة ...
وبعد ان ساد الهدوء ... بدا الجميع في وضع خطة للتدخل السريع غير المعلن في السودان ...



المشهد الثالث
سويسرا – جنيف – منزل الدكتورة نادين محجوب صالح الزين
كان صوت الشيخ السديس يعلو مرتلاً آيات بينات من سورة البقرة ... تغلغل الصوت في كل ركن من اركان المنزل الكبير ... في غرفة المعيشة تكورت الدكتورة نادين على الاريكة امام جهاز التلفزيون بصمت حزين مذهول وهي تتابع على قناة السي ان ان وقائع دفن جثمان والدها الحبيب ...لم تتوقف دموعها عن السيلان مما شكل بقعة كبيرة في قميص زوجها الذي كان يحتضنها بكل حنو ... لقد اعتادت عند المحن الشديدة التخلي عن قوتها التي ورثتها عن ابيها واللجوء الى صدر زوجها حيث تجد الدعم والمواساة والتشجيع ... ساد الصمت بينهما واكتفي الدكتور عبد الله راينز بمسح دموع زوجته من وقت لآخر ...بينما جلس طفلاهما محجوب وفاطمة وهما ينقلان نظراتهما المحتارة بين امهما الباكية ووالدهما المصدوم ومن ثم الى شاشة التلفزيون التي تعكس مشهد امواج متلاطمة من البشر الغاضبين .. كان الرجال يصرخون بعنف وثورة بينما تبكي النساء بالم وحرقة ... كانت الاكتاف تتبادل حمل جثمان الجد الذي وعدهم بعودة قريبة ...
بعبارات بسيطة تناسب سنهم الغض شرح الدكتور عبد الله لاطفاله ما حدث .. فسال من يحمل اسم الجد المغتال : لماذا قتلوه ؟؟!! هل لانه يختلف عنهم في طريقة التفكير فقط ؟؟!! انا احيانا اختلف مع فاطمة في اشياء كثيرة لكنني لا افكر بقتلها !!
ولم يملك الوالدان جواباً لمنطق الصغير فالتزما الصمت ...
فجاة ارتفع رنين جرس الباب مبددا السكون ناشرا الفزع ... اتت الخادمة بخطوات منضبطة تدل على اصلها الالماني واعلنت عن وصول ضيوف اتوا بدون موعد محدد .. وتتساءل هل تدخلهم ام تصرفهم بعد ان تعطيهم موعداً ؟؟
كان الدكتور عبد الله قد اعتاد منذ زمن طويل على طريقة اهل زوجته في الحضور بلا اعلان مسبق وفي أي وقت فهب واقفا وطلب من الخادمة الانصراف وبانه سيتولى الامر بنفسه ...
على عتبة الباب وقفت ثلة من الرجال تفاوتت اعمارهم وتشابهت ملامحهم ... كان بعضهم يرتدي الزي السوداني بينما البعض الآخر ارتدى بدل انيقة تحمل تواقيع مصممين مشهورين ... تعرف على بعض الوجوه التي اعتادت ان تزور صهره من وقت لآخر فدعاهم الى الدخول مرحباً ...
بعد ان استقر الجميع في الصالون الفسيح ذو النوافذ الفرنسية التي تطل على حديقة بديعة التنسيق ..بدا أكبرهم الكلام وهو ينطق عبارات العزاء بصوت مخنوق يدل على حزنه وانفعاله .. وردد الجميع من بعده عبارات متفاوتة تدل على نفس المعنى ... بعدها ساد صمت طويل .. ولاحظ الدكتور عبد الله النظرات الحائرة المحرجة التي يتبادلها الزوار ... نظرات كانت تحمل عبارات عجز الجميع عن قولها ... أخيراً تنحنح أكبرهم سناً وبدا يتحدث بصوت واضح النبرات وبلهجة فرنسية طلقة تدل على مستوى تعليمي رفيع :
دكتور عبد الله اعتقد انك بتعرف غالبية الحضور هنا .. التقينا عدة مرات وحضرت معانا نقاشات كتيرة دارت حول الأوضاع في بلدنا ... ولمن دكتور محجوب الله يرحمه اخذ قرار الرجوع للسودان .. أنت أول إنسان رفض الفكرة وحذرنا من خطورتها على حياته ... لكن نداء الوطن كان أقوى من كل محاولات الإقناع ... ورغبة المرحوم في إصلاح الأحوال اتغلبت على كل المخاوف .. خصوصا وان الدعوة جاته من ناس معروفين في الجيش ومن صفوة المجتمع المدني بعد ما خلاص ياسوا من جدوى محاولات الإصلاح من الداخل وبقى الفساد سمة كل زواية في البلد ... كل شئ كان بينهار قدامهم وهم ما عارفين يعملوا شنو ... قرارهم بدعوة المرحوم جا بعد مشاورات كتيرة بين كل الأطراف ومعاه هو شخصياً... هم اتاكدوا من عجزهم لانه الشعب فقد الثقة في الجيش ومهما عملوا وابدوا من حسن نية ورغبة صادقة في التغيير ما في زول حيصدقهم ... الشعب عاوز إنسان عادي .. مدني ... نضيف وعينه ملانة ... بتهمه مصلحة البلد وناسها اكتر من أي شئ تاني ... إنسان يجي بارادة الشعب ويمشي بيها ... لانهم خلاص تعبوا من البيجوهم على صهوة دبابة ويقرروا انهم يخلدوا في الكرسي بكل الطرق حتى لو كانت قاعدة الكرسي جماجم الشعب ..
دكتور محجوب الله يرحمه كان نموذج للانسان دة .. نضاله الطويل ضد الحكومة الظالمة كان معروف في كل المحافل ... دفاعه عن الناس العاديين في السودان ..ز رغبته في تحسين احوالهم المعيشية ... المنظمات الخيرية العملها جوة وبرة وكلها بتهدف لمساعدة المحتاجين والفقراء وما اكترهم ... دكتور محجوب الله يرحمه كان يتمتع بكل صفات القائد الناجح .. عنده ارث ضخم من المحبة في قلوب الناس .. اضافة لدور ابوه الله يرحمه القتلته الحكومة برضه لانه كان بيدافع عن حق الشعب في الحياة الكريمة ..
كان المتحدث نيابة عن المجموعة التي ترافقه هو البروفسير أحمد نجيب عزّ الدين رجل علماني وشخصية مرموقة في المجتمع الدولي عرف بعدائه الشديد المعلن لنظام الحكم في السودان ... يحمل الجنسية الامريكية منذ اكثر من ثلاثة عقود .. يحاضر في اشهر الجامعات الأمريكية عن تاريخ الحضارات العربية والافريقية .. ويعتبر مرجع في حقل مقارنة الأديان ... الخاصة المقربين يعرفون ان له وظيفة اخرى لا تقل اهمية عن الاولى ..فهو يشغل منصب احد كبار مستشاري البيت الابيض في الشئون السودانية .. وعلى ضوء المعلومات والاقتراحات التي يقدمها تتحدد سياسة امريكا تجاه السودان .
تدافعت كلماته بنفس اللهجة المتمكنة الانيقة : دكتور عبد الله انا باعتذر عن المقدمة الطويلة دي لكن هي ضرورية ولازمة لكلامي الجاي لانه احتمال يكون صعب التقبل بالنسبة ليك ... وقبل ما ندخل في أي نقاش نرجو انك تطلب من الدكتورة نادين الحضور لانها معنية بالموضوع اكتر من أي شخص آخر موجود هنا ... رفع الدكتور عبد الله راسه بدهشة عند سماع طلب البروفسير احمد نجيب ... برغم تفكير صهره المنفتح وتحرره من عقد العقل العربي فيما يختص بحقوق المراة ... وبرغم الاسلوب المتحضر الديمقراطي الذي كان يتعامل به مع ابنته وزوجته .. الا انه لم يدعهما يوماً لحضور جلسات النقاش الرجالية التي كثيرا ما تمت في بيته ... كان يضع خطاً واضحاً بين نشاطه السياسي ومسئولياته العائلية ..
لم تفت نظرة الدهشة التي عبرت ملامح الدكتور عبد الله عيني البروفسير احمد نجيب الحادتين ... خرجت الكلمات من بين شفتيه بتركيز وبطء متعمد وهو يرد عليه : اوعدك انك حتفهم كل شئ بحضور مداد نادين ... خرج الزوج الحائر الى حيث تجلس زوجته وهي تحتضن طفليها بعد ان اغلقت جهاز التلفزيون وظلت عيناها معلقان بالفراغ ... عندما اخبرها بطلب الزوار لم تندهش .. دخلت غرفتها واحضرت احد الثياب التي تركتها امها لديها قبل ذهابها في الرحلة المشئومة مع ابيها ... ارتدته بحرفية اصيلة ووضعته على راسها بحرص ثم تبعت زوجها الى الداخل ...
ما ان وظات قدماها ارض الغرفة حتى هبّ الجميع وقوفا وارتفعت الاكف وانخفضت الرؤوس بينما كانت الشفاه تتمتم بخشوع ... انتظر كل دوره في مصافحة الابنة الحزينة ... وعندما اتى دور البروفسير أحمد نجيب ..ز احتضنها بقوة ... فقد كانت بمثابة ابنته ... وشهد كل مراحل حياتها منذ ولادتها وحتى الان ... فقد كان الدكتور محجوب من اقرب اصدقائه واكثرهم التصاقا به برغم الاختلافات الجوهرية في طريقة تفكير كل منهما ...
احاط كتفيها بذراعه وقاد خطواتها حتى اجلسها بقربه في الاريكة الناعمة وبدا يتكلم بصوت مهزوز : نادين ... لازم تعرفي انو ابوك الله يرحمه مات في سبيل هدف عظيم ... هدف حلم كلنا بنسعى ليهو من سنين مش لينا احنا وبس... لشعب كامل اتجرع الظلم لمن اتشرق بيهو ... شعب تعبان .. بائس يائس ... مظلوم ومسروق .. شعب مستني الخلاص .. المرحوم كان بيحاول يفتح باب الخلاص دة لكن الجلادين ما ادوه فرصة .. وصلوا ليهو .. قفلوا الباب وختموه بدمه الطاهر ودم الناس الوقفوا معاه بكل شرف ... الخسارة فادحة .. مش ليك او لينا ... لشعب كامل ... عشان كدة احنا لازم ما نخلي الدم السال دة يروح هدر ... لازم يكون ليهو تمن ... وكلنا عارفين منو المفروض يدفع التمن ... توقف عن الكلام برهة .. درات عيناه في وجوه الحضور المتحمس من جراء كلماته القوية .. عبأ صدره بالهواء ثم اطلق زفرة طويلة رمى بعدها قنبلته في وجه نادين وزوجها :
نادين ... احنا قررنا نرشحك لرئاسة الجمهورية ...

المشهد الرابع
السودان – العاصمة الخرطوم – مطار الخرطوم الدولي .

عندما توقفت الطائرة الصغيرة في منطقة بعيدة داخل المطار ارتفعت درجة التوجس بين الحضور الذي كان ينتظر في طرف المدرّج ... هدأ صوت المحرك وببطء نزل السلم من جوف الطائرة ..في فتحة الباب ظهرت امراة شابة ترتدي بذلة انيقة باللون الرمادي الفاتح تحتضن جسدها النحيل بينما انعكس لون القميص الحريري الابيض على وجهها الاسمر الخالي من الزينة واختفت عيناها خلف نظارة سوداء كبيرة ... خطت اولى خطواتها على السلم ثم توقفت عندما تناهى الى اذنيها صوت هدير عال ياتي من بعيد ... صوت كموج بحر هائج اثار القشعريرة في جسدها .. احست بالخوف ... بالغربة ... بالرغبة في العودة الى وطنها ( سويسرا ) فهي لم تعرف وطنا غيره ... هناك ولدت وكبرت وتعلمت ... هناك تزوجت وانجبت اطفالها ... هناك احست بالامان والحرية .. السودان بالنسبة لها كان محطة صغيرة تاتيها بين حين وآخر ولا تبقى فيها طويلاً ... السودان حيث قتل اباها ومن قبله جدها ...
افكارها التي كانت تتصادم في عقلها جعلتها تشعر بالتردد والندم على قرارها بالخضوع لضغط البروفسير احمد نجيب ... كانت حجته قوية ومقنعة ... استطاع التغلب على خوفها وعدم رغبة زوجها في تورطها في هذا الامر ... تذكرت كلماته وهي ما زالت تتامل المنظر من اعلى سلم الطائرة : نادين يا بتنا .. عاوزك تفكري في الموضوع بهدوء وعقلانية قبل ما تردي ... اتت كلماته بعد الشهقة التي خرجت من فم نادين عقب تصريحه برغبتهم توليها الحكم في السودان .. واصل بنفس الصوت الواثق المصمم : انا عارف انو كلامي حيبدو ليك غريب ومخيف بالذات في ظل الظروف الحاصلة هناك حالياً لكن لو فكرتي فيهو شوية حتلقيهو عين العقل ... ويمكن كمان يكون المخرج الوحيد لبلدنا من الحاصل فيها ... نادين البلد ماشة من سيئ لأسوا ... ثورة الشعب وصلت مرحلة خطيرة ... الشوارع بقت حمامات دم ... النهب والسلب والاغتصاب بقى شئ يومي وعادي ... انعدم الامان وعمت الفوضى ... حتى مليشيات الجيش فقدت السيطرة على أي شئ .. وهي اصلا بقت منقسمة ما بين مؤيدة ومعارضة للثورة ... واحنا سمعنا من مصادر موثوقة انو الجزء الموالي بدا يسلح الشعب لكن دة شئ ما مطمئن لانو بعد شوية حتنقلب حرب شاملة لا تبقي ولا تذر ... يا نادين البلد بتنهار والناس بتموت بالعشرات كل يوم ... احنا لازم نعمل شئ يوقف الانهيار دة
وكانما استنفذ الكلام كل قواه .. لاذ البروفسير احمد نجيب بالصمت الذي اصبح ثقيل الوطاة ... وفجاة ارتفع صوت الدكتور عبد الله بانزعاج : استميحكم عذراً على تدخلي في نقاشكم ... فانا لم اعتد المشاركة في كل نقاشاتكم السابقة حول شئون بلدكم ولكن ما تقترحونه الان هو شئ غير مقبول وغير مفهوم وغير منطقي ... ايها السادة في حال نسيتم لقد قتل والد زوجتي بالامس القريب كما قتل اباه منذ عهد بعيد .. انكم شعب يقتل بعضه بعضاً ... لكن المضحك في الامر انكم تقتلون الاخيار وتدعون الاشرار ... لا تتعلمون من اخطاءكم السابقة وتنتظرون معجزة من السماء لتحل لكم وضعكم الميؤس منه .. ارجو ان لا تاملوا بان تكون زوجتي هي معجزتكم المنتظرة ؟؟ انها حتى لا تحمل جواز سوداني فكيف تتوقعون منها ان تصبح رئيسة لدولة لا تحمل هويتها ؟؟ هل خلا بلدكم من راغبي السلطة حتى تاتوا وتطلبوا منها ان تتولى زمام الامور وتنظيم الفوضى في بلد اغتال اباها وجدها ؟؟ بلد تعرفه نظرياً ولم تعش فيه فعلياً ؟؟ ...
ادهشت ثورة الدكتور عبد الله الجميع بما فيهم زوجته التي التزمت الصمت برهة قصيرة ثم ارتفع صوتها الحزين وهي تخاطب الجمع المتلهف لسماع رائيها ..نطقت بلهجة سودانية صميمة لم تتاثر بالاربع لغات التي تتقنها ... يا جماعة اول شئ انا باشكركم على جيتكم وعلى تفكيركم فيني بالصورة الايجابية دي ... لكن انا باتفق مع زوجي في انو اقتراحكم ما مفهوم وما منطقي ... اكيد أي واحد من القاعدين هنا اجدر مني بتولي المنصب العرضتوه علي ... كلكم اكثر دراية بالسودان وظروفه ومشاكله ... يمكن انا الوالد الله يرحمه كان حريص اني اعرف كل شئ عن بلدي ... حفظني اسماء المدن وتوزيعات القبائل لقنني التاريخ من ايام الاستعمار ولغاية قبل ما يقتلوه بيومين ... خلاني انطق اسماء القري والشوارع واحفظها عن ظهر قلب ... حكى لي عن الناس والاحوال قبل ما يجي النظام دة ... لكن في النهاية دي كلها بتظل معرفة نظرية ... انا بامشي السودان مرة في السنة ... وباقعد فيه اقل من شهر ... يعني في الواقع انا غريبة عن البلد تماماً حتى جواز وجنسية ما عندي ... بالاضافة لكدة ما عندي الرغبة او المقدرة اني اتعامل مع مشاكلو والقى ليها حلول ... الا اذا كنتوا عاوزين رئيس مجرد صورة بس ما ليها أي دور فعلي ... واجهة لناس تانيين هم اليديروا ويحكموا ... ودة شئ مرفوض تماما بالنسبة لي .. عشان كدة انا باشكركم مرة تانية لكن باعتذر عن قبول عرضكم ... ارتسمت نظرات الخيبة في جميع الوجوه ... الا وجه بروفسير احمد الذي يبدو انه لا يقبل كلمة لا كجواب فاستلم دفة الحديث :
شوفي يا نادين .. احنا ما اخترناك عبطاً ولا مجاملة ولا بصورة عشوائية ... احنا اخترناك بعد تفكير عميق في كل الملابسات والظروف الحالية الحاصلة هناك ... ختينا في اعتبارنا مصلحة البلد في المقام الاول .. عشان كدة اختيارنا جاء نتيجة لاسباب منطقية جداً ومعقولة جداً ...
يا نادين شعبنا تعبان وحزين ومحبط ... متخبط وما عارف يثق في منو ... محتاج لدم جديد وفكر جديد .. محتاج لقيادة حكيمة ونزيهة ... قيادة مثقفة وعندها مقدرة تتواصل مع كل فئات الشعب .. واهم شئ تكون قيادة مدنية وبعيدة عن العساكر ...
انتي صحي اتولدتي وعشتي برة السودان .. لكن وجدانك سوداني مية في المية ... عندك ارث لا يضاهى من الثقة والمحبة والتعاطف في قلوب السودانيين .. عندك سمعة ابوك الله يرحمه ونضاله ودمه البذله رخيص عشان الوطن الغالي ..ومن قبله جدك الله يرحمه ... الناس هناك كانت مستسلمة وخاضعة لفترة طويلة شديد .. كم سنة ؟؟؟ قريب 30 سنة ؟؟؟ لمن خلاص الدنيا كلها اقتنعت اننا مرتاحين ومبسوطين عشان كدة مستكينين ... ما كانوا عارفين انو الشهب ساكت قهر وياس ... مستسلم خوف من انو الجاي يكون اسوا من المشى ... الناس هناك كانت عاملة زي الزومبي حية وميتة في نفس الوقت .. لانو كل شئ كان وصل الحضيض .. حتى سمعتنا ومصداقيتنا كدولة وصلت الحضيض .. ولما قرر ابوك انو دة الوقت المفروض فيهو نبدا نعمل حاجة عشان نصلح الوضع وشال روحه في كفه ورجع السودان ... بمجرد ما خت رجله في البلد احيا الامل وكل الناس وقفت وراه ... ما كان في ايده شئ غير مجرد احتمال ورغبة في احداث تغيير ..وشوفي بمجرد احتمال الشعب عمل شنو ؟؟ خايفة من الرئاسة ؟؟ ما حاقول ليك ما تخافي .. ولا حاقول انو المهمة المنتظراك هينة ... بس حاقول ليك انو السياسة دي زي حلة الطبيخ الانتي بتسويها كل يوم في مطبخك .. بقدر ما بتجيديها وبتكوني حريصة تختى جواها كل الحاجات االبتخليها متقنة بيطلع طعمها حلو وشكلها حلو وريحتها حلوة .. السياسة ما محتاجة عالم او ساحر ... السياسة عاوزة طباخ ماهر ... وانتي طباخة ماهرة بالفطرة وبالوراثة ... كلنا حنكون مساعدينك في المطبخ دة .. حنقيف معاك جنبك ووراك نسندك ونوجهك لو احتجتي توجيه ... وفي نفس المطبخ حيكون معاك شعب كامل بيديك دعم ما ليه حدود لانو شعب عنده سؤ تغذية ومحتاج وجبة دسمة عشان يسترد صحته وعافيته
بالنسبة لجوازك وجنسيتك دة ابدا ما اشكال ... وعمر الهوية ما كانت مرتبطة بورق ... انتي وانا وكل الناس عارفين انك سودانية بت سودانية بت سوداني ... وبكرة الصباح يكون عندك الورق مش الهوية .. لانو هويتك معروفة من زمان ...
نادين البلد محتاجة ليك .. ما تديها ضهرك .. دم ابوك وجدك بيصرخوا طالبين الثار من الجلادين القتلة ... وما تنسي انو امك الحاجة فاطمة قاعدة هناك وما قادرة تطلع لانو المطار مقفول ...
ذكرى امها الحبيبة جعلتها ترتعش خوفا عليها فهي كل ما بقى لها ... لقد ضرب هذا الرجل الثعلب على اوتارها الصحيحة دم ابيها وجدها ... وامها المحتجزة في وطنها ...
واصل البروفسير حديثه الذي وجد صدى في قلب نادين المتعب واصبح صوته خفيضاً وعميقاً : نادين احنا قدامنا خيارين ما عندهم تالت .. قبولك تمشي السودان وتمسكي الحكم ولو لفترة مؤقتة لغاية ما الامور تتنظم .. ودة حيكون حل لحاجات كتيرة ما حتعرفي مداها الا لمن تكوني هناك .. أو رفضك ودة معناها استمرار سيلان الدم والاسوا منه احتمال دخول قوات دولية السودان عشان تسيطر على الوضع ... ركّز نظراته في عمق عينيها وهو ينطق جملته الاخيرة .. وانتي عارفة يعني شنو قوات دولية تدخل السودان وتحكمه ..
لفحة الهواء الحاء اعادت نادين الى الواقع ... انها هنا في السودان ... في بلد القتلة والمساكين ... بلد الغنى والفقر ... بلد الجوع والمرض ... بلد المتناقضات ... وسوف تصبح رئيسة جمهورية ...





المشهد الخامس
احد البيوت الآمنة في اطراف العاصمة

كان المنزل الكائن في شارع هادئ باحد الاحياء الجديدة في اطراف العاصمة يتميز بتصميم بسيط غير ملفت ... كان من صممه يفتقر الى الخيال المهندسي ويميل الى النمطية ... من بعيد لا يبدو مختلفا عن بقية المنازل المتناثرة في المنطقة ... لكن عند الاقتراب منه لا يملك المرء الا ان يلاحظ السور الذي بني باحجار جبلية داكنة وبعلو اكثر من المتعارف عليه .. واذا دقق النظر يمكنه ان يكتشف كاميرات المراقبة الموزعة بدقة حتى تغطي اكبر مساحة من المحيط المجاور ... توج السور العالي بحلقات متداخلة ملتفة من السلك الشائك الصعب الاختراق ...
داخل الباحة المحيطة بالمنزل تناثر عدد من الرجال بعضهم بملابس عسكرية وبعضهم يرتدي ملابس مدنية .. كانت السمة المشتركة بينهم هي الاسلحة الاتوماتيكية المتطورة التي يحملونها .. ونظرات التوتر التي يتبادلونها عند سماع أي صوت حتى لو كان صوت طائر صغير يمر في السماء .. كانوا يحيطون بالمبنى احاطة السوار بالمعصم .. خطواتهم خفيفة ولا تسمع لها صدى ... يتبادلون الحديث باشارات ساكنة ...
في الداخل كان الجو اكثر توتراً اختلط صراخ الاطفال مع نقاش الكبار ... على ارضية الصالة الواسعة المفروشة بافخم انواع السجاد تناثرت مجموعة كبيرة من الشنط بكل الاحجام والمقاسات ... كانت الفوضى العارمة تعم المكان ... في الطابق العلوي وفي احدى الغرف المغلقة وقف رجل يرتدي الزي العسكري المزين بنياشين تدل على انه وصل اعلى رتبة في سلم العسكرية ... كانت خطواته تزرع الغرفة طولاً وعرضاً .. علت وجهه تقطيبة حادة جعلت الاربعة الآخرين المتواجدين معه يلوذون بالصمت ... توجه الى النافذة العريضة التي تغطي نصف مساحة الحائط ووقف متسربلا بصمته وهو يتامل السماء التي تلونت بالدخان من جراء الحرائق المشتعلة في اماكن متفرقة من قلب واطراف العاصمة ... تمتم بجمل هامسة ثم استدارمخاطباً مرافقيه :
يعني خلاص دة الحل الوحيد ؟؟ نطلع نخلي البلد ؟؟ فشلتوا انكم تسيطروا على الوضع ؟؟؟ كل الجيش وكل السلاح التحت يدكم دة وما قادرين على حبة عيال وكمان ما مسلحين ؟؟!!
بدا صوته يرتجف من فرط الانفعال وتجاوبت خطواته مع القلق الذي صاحب كلماته : اطلع كيف يعني ؟؟ عاوزين يقولوا علي هربت ؟؟ وامشي وين ؟؟ ياتو بلد حترضى تقبلني بالذات اننا في الفترة الاخيرة خربنا علاقتنا مع معظم الدول ؟؟ وبعدين كيف اعيش انسان عادي بعد ما تعودت اكون رئيس الفترة الفاتت دي كلها ؟؟!! وقسماً بالله العظيم لو كنت عارف انو دة حيحصل كنت عملت حسابي في حاجات كتيرة من زمان ... وعلي الطلاق بالتلاتة دة شعب يستاهل الحرق ... هو احنا عملنا ليهو شنو اكتر من القبلنا ؟؟ والله العظيم دة ...
قاطعه احد المرافقين الذي تدل نياشه بانه يقل عنه قليلاً في الرتبة العسكرية : يا سيادة الرئيس خلاص ما في داعي للحلفان الكتير ... احنا برانا وما معانا زول غريب ... وبعدين انت عارف انو الموضوع اكبر من شوية عيال عزّل ما قدرنا نلجمهم ... المرة دي الوضع مختلف ... الموضوع اتطور من احتجاج بسيط على زيادة تافهة في اسعار العيش والسكر والبنزين لثورة عارمة وطبعا هواة الصيد في الموية العكرانة لقوها فرصة وشحنوا الناس ضدنا ... لمن الموضوع كبر وما قدرنا نلمه زي كل مرة ... دي اكبر ثورة حصلت في تاريخ السودان من سنة 56 ولغاية الان كل الفات قصادها لعب عيال .. الناس قامت من حلفا لنمولي ومن سواكن لكردفان ... ثم اضاف بلهجة ساخرة ... سبحان الله الشعب السوداني الما قدرت اتفاقيات السلام كلها توحده .. وحدته الثورة دي ... والزاد الطين بلة انو مليشيات الجيش كلها بقت رافضة تماما تنزل الشارع ... كلهم خايفين وعارفين انهم حتى لو نزلوا الشارع القضية خسرانة ... واضافة لكدة الناس بقت لو شافت أي عسكري بيتلموا عليه ويضربوه لمن يموت .. لدرجة العساكر قلعوا زيهم رموهو ورجعوا بيوتهم ...
استلم آخر دفة الحديث وتكلم بصوت حاد كالصرير : وبعدين يا سيادة الرئيس احنا لازم نطلع وباسرع ما يمكن قبل ما يكتشفوا مكاننا ... صحي البيت دة من البيوت الآمنة الما بتعرفها الا قلة قليلة شديد من ناسنا لكن ما بقى في ضمان يمكن زول يفكر يعمل فيها بطل ويسلمنا عشان ينقذ نفسه ولو دة حصل في غمضة عين كلنا بنروح في ستين داهية ... وانت عارف سيادتك انو المؤسسة العسكرية بقت متعددة الولاءت ..كل ميليشيا بتطيع القائد الهي تابعة ليهو وبس ... وبعدين سيادتك ما يقولوا هرب ... لا حتكون اول ولا آخر الهربوا ... هو يعني انت حتهرب من الجنة ؟؟!! وما تشيل هم تمشي وين وتعيش كيف ... طالما الانسان بيملك كلمة السر بيقدر يفتح كل الابواب بدون تعب ... واحنا عندنا كلمة السر دي وطالما احنا طالعين بالمعانا دة كلو غير الطلعناهو برة من زمان صدقني حنعيش اباطرة ... وكلها عشرة ولا خمستاشر سنة ونجي راجعين كانوا ما حصل شئ ويمكن تلقى ناس تستقبلك كانك الابن الضال العائد لحظيرة الوطن .. ما تخاف يا سيدة الرئيس شعبنا دة شعب طيب وبينسى سريع .. خصوصا بعد ما التجارب اثبتت انو أي خلف جا كان اسوا من سلفه وبيخلي الناس تقعد تتحسر على الايام الفاتت ..
كان الحديث بينهم ككرة يتقاذفونها ببراعة من فم لآخر ... نطق ثالث الرفاق بصوت عميق : سمعت من مصدر موثوق به انو الجماعة البرة جابوا بت دكتور محجوب عشان تمسك البلد ... كانت كلماته كقنبلة صمت ألقيت وسط الغرفة فاحتبست الاصوات في الحناجر واحتتقنت الوجوه .. واخيراً انفجر رابع الرفاق ضاحكاً بصوت هستيري : منو ؟؟!! بت دكتور محجوب ؟؟؟ الشافعة الما قامت من قعر الواطة دي ؟؟ تحكم البلد ؟؟ ليه ؟؟ المعارضة الجوة والبرة دي كلها ما فيها راجل يملا العين لمن جايبين مرة تحكم البلد ؟؟ والله دة كلام .. وجلجلت ضحكاته العالية حتى وصلت خارج جدران الغرفة السميكة وجعلت رجال الامن الواقفين امام باب الغرفة يتبادلون نظرات مندهشة ...
رفع الرئيس يده فتوقفت الضحكات على الفور وتنحنح صاحبها معتذراً ...
خرجت الكلمات من فم الرئيس بطيئة وممطوطة : انا من البداية كنت رافض فكرة انكم تغتالوا الزول دة لاني كنت حاسي بكمية المشاكل الحتصل بسبب الموضوع دة بس انتوا ما سمعتوا كلامي واصريتوا تقتلوه وشوفوا المصايب الجاتنا من وراه ... وهسة كمان بته جاية تمسك البلد ؟؟؟ يبقى بالجد ما في طريقة قعدة لانها بالتاكيد لو مسكت حتكون عاوز تاخد الثار وما حترحمنا ... اتجه بكلماته الآمرة الى من يليه رتبة : جهزوا الطيارات وشوفوا أي دولة عندنا معاها تعامل خاص وعن طريق قنوات سرية حددوا حنمشي وين ... اهم شئ الشنط دي تطلع قبالنا لانو بيها حنشتري الولاء والامان ومن دونها حنضيع ... دبروا طيارة لي انا وزوجاتي الاربعة والاولاد وانتو معاي وكل واحد فيكم ما ضروري يسوق حريمه كلهم يعني واحدة ولا اتنين كفاية وخلوا الباقيات هنا لو الظروف ساعدت بنرسل ليهم ولو ما قدرنا خلاص يقعدوا قبلهم ... ديل نسوان وما في زول حيعمل ليهم حاجة ... الباقيين خليهم يتصرفوا بطريقتهم احنا ما حنقدر نسوق العالم دة كلو معانا ...


المشهد السادس
مناظر خارجية مختلفة
المنظر الاول – الشارع ...
كانت نظرات نادين تجول فيما تراه خارج السيارة من خلال الزجاج المغلق ... شدة الزحام جعلت السيارة تتحرك ببطء شديد برغم مجهودات الشباب الذين يرتدون ثيابا مدنية ويحاولون تنظيم الجمع المتدافع ... انتابتها مشاعر هي مزيج من الحزن والريبة الخوف والقلق ... الالم والخوف ... ما ان خرج الموكب خارج حدود المطار حتى ادركت سر الهدير الغامض الذي صافح اذنيها لحظة وقوفها في اعلى سلم الطائرة ... على جانبي الطريق اصطف الاف البشر وهم يحملون صورة والدها الحبيب .. نظرت اليها بعيون دامعة ثم اندهشت عندما وجدت آخرين يحملون صورتها واخذت تفكر من اين حصلوا عليها ؟؟ كانت الاصوات تاتيها واضحة برغم الزجاج المغلق وهي تصرخ بعبارات منغمة
" الثار الثار لدم محجوب "
" بالروح .. بالدم .. نفديك يا نادين "
" احنا معاك والله يرعاك "
كانت تتامل ظلال البؤس المرتسمة على الوجوه وسالت دموعها بغزارة لمراى هولاء الطيبون الذين اتوها يحملون فقرهم وعجزهم وسنين من الظلم ... اتوها يحملون املهم بغد افضل وحلم اخضر ... اصابتها نوبة رعب ... ما الذي ادخلت نفسها فيه ؟؟ لماذا لم تستمع لنصيحة زوجها الدكتور عبد الله وترفض الحضور الى هنا ؟؟؟ ملاها الشك في قدراتها وامكاناتها ...التفتت تطلب من البروفسير أحمد نجيب الذي كان برفقتها ان يعيد السيارة الى المطار ويامر سائق الطائرة باعادتها الى سويسرا .. في نفس اللحظة رن الهاتف النقال الذي تسلمته حال خروجها من المطار ... عندما ضغطت زر الاستقبال بحركة اتوماتيكية اتاها صوت الحاجة فاطمة باكياً : نادين ؟؟ انتي بالجد جيتي ؟؟ انا لمن قالوا لي ما صدقت ؟؟ احي على ابوك يا نادين ... شفتي الحصل ليهو ؟؟ وانخرطت في بكاء حار جعل نادين تنتحب بحرقة ووجع ودون ان ترد بحرف واحد ... اخيرا عندما استطاعت الكلام التفتت الى البروفسير أحمد نجيب : ودوني لامي بسرعة .



المنظر الثاني
بيت في احد الاحياء الشعبية بالعاصمة
كان الجمع الموجود خليط من الرجال والنساء والاطفال جلسوا في مقاعد مختلفة الاشكال والالوان في صدر المكان وقف رجل شاب وهو يقرا بصمت ورقة بين يديه ... اخيرا رفع راسه وخاطب الوجوه القلقة المتلهفة ...
جاتني معلومات مؤكدة انو باقي مليشيات الجيش الكانت لسة بتقاوم سلمت سلاحها للموالين لينا ... وكمان في اللحظة دي بت المرحوم الدكتور محجوب صالح الزين وصلت البلد و متجهة للقصر الجمهوري ... واذا الامور مشت كويس حتستلم الحكم ونبدا نعيد ترتيب البيت من جوة ... لانو في مجموعات استغلت الوضع الكان حاصل وكونت مليشيات خاصة بيها ناشرة الرعب في اطراف العاصمة وعاملة فيها انها جزء من الثوار ... عشان كدة اول ما الدكتورة نادين تمسك الحكم حنتفرغ احنا لتنظيف اسمنا من الناس الوسخوه ديل ...
ارتفع اللغط بين الحضور ورفع اكبر الرجال سنا يده طالباً الحديث ... وبدا كلامه بانفعال : لحظة يا جماعة ... انا ما قادر افهم كيف حنسلم حكم البلد بالبساطة دي لانسانة غريبة عننا تماما ... ما عندها أي خبرة ولا بتعرف أي شئ عن الوضع الحاصل ؟؟ هل بس لانو ابوها دكتور محجوب الله يرحمه ؟؟!! هل السبب دة براه بيخليها مؤهلة تحكم بلد زي السودان ؟؟ اشك في كدة ... يمكن تجربة توريث الحكم نفعت في سوريا والمغرب والاردن ومصر وليبيا ... لكن على الاقل بشار ومحمد وعلاء وقذاف الدم كانوا رجال وعاصروا الاباء خلال فترة حكمهم .. لكن بت المرحوم محجوب ما تنبطق عليها أي حاجة من الحاجات دي .. انا السمعته انها حتى ما عندها جواز ولا جنسية سودانية دي بتعرف شنو عن السودان ؟؟ عن عذاب الناس ومعاناتهم ؟؟ عن الجوع والمرض ؟؟ عن الفقر والحرب ؟؟ يا جماعة دي انسانة اتولدت وفي خشمها ملعقة دهب ... عاشت عمرها كله مرفهة ... يمكن معاناتها الوحيدة كانت انها تختار تلبس شنو لشغلها كل يوم او تحدد للطباخة تعمل اكل شنو ... كيف حتحس بينا ؟؟ كيف حتقدر تتعايش معانا ؟؟؟
وصمت الرجل المحتج وكانت انفاسه اللاهثة مسموعة في المكان من اقصاه لاقصاه ... ارتفعت همهمات التاييد بين الحضور فكلماته كانت منطقية وتحمل في طياتها الحقيقة ...
عندما تزايدت عبارات التاييد والمعارضة رفع رجل المنصة يده فعم الصمت على الفور ... خرج صوته مبحوحا من شدة الانفعال : تعرفوا يا جماعة احنا مشكلتنا الحقيقية البتخلينا دائما نرجع ورا شنو ؟؟!! اننا بنحكم على أي شئ بسرعة شديدة بدون ما نفكر كتير وبنخلي حكمنا دة هو اليوجه تصرفاتنا وما بنتخيل لحظة اننا حكمنا دة ممكن يكون غلط وبالتالي كل شئ بينيناهو عليهو غلط ... مشكلتنا اننا شعب انطباعي لحد التهور وبيتمسك بالانطباع الاول اطول لفترة ممكنة برغم الدلائل البتجي بعد الانطباع وتورينا انو ما صحيح ... عشان كدة مشينا ورا عبود وجينا قلنا ما دايرنه ومشينا ورا نميري وجينا قلنا ما ديرنه ... مشينا ورا الحكومة دي فترة طويلة جدا وبرضه جينا قلنا ما دايرنها ... عشان ننجح ونبقى شعب ليه مكان وسط العالمين لازم نتعلم اننا ما نمشي ورا افكارنا المسبقة ... لازم نتعلم كيف نفكر في الشئ الحاصل حسب ما هو بدون اوهام وخيالات كبيرة عشان احباطاتنا ما تكون كبيرة ...
بت دكتور محجوب جات تحكم البلد ؟؟ طيب مالو ... ما نديها فرصة ... يعني هي حتكون اسوا من الفاتو ؟؟؟ ما اظن ... ليه ؟؟؟ لانها انسانة متعلمة ومثقفة وواعية وعارفة الظروف البتمر بيها البلد .. وعلى عكس ما انتو متصورين بتعرف كل شئ عن السودان ... ولمن اقول كل شئ معناها كل شئ ... يكفي انو ابوها المرحوم دكتور محجوب صالح الزين عشان تكون بتعرف كل شئ ... وبعدين كيف تقولوا ما سودانية ؟؟!! عشان اتولدت واتربت في سويسرا ؟؟ انتو كلكم عارفين انو احنا السودانيين لو اتودلنا في القمر واتربينا في المريخ برضه حنفضل سودانيين ... لانو السودنة دي ما كم ورقة ختمتها السلطة وسمتها جنسية أو جواز عشان تثبت اننا سودانيين ... السودنة دي هوية موجودة في جيناتنا ... مزاج معجون فينا ... وجدان ما بينفصل عننا ولا بنفصل عنه ... السودنة دي هي البتخلي حريمنا يعوسوا الكسرة في شيكاغو ويطحنوا الويكة في سيدني ... هي البتخليهم يحفروا حفرة دخان في طرف حوش في ماليزيا .. وهي البتخلي التوب علم بيتوج هامة كل سودانية وين ما كانت ... هي البتخلي الجلابية والمركوب امتياز بنرفض نتخلى عنه مهما كبرنا ولا صغرنا ووين ما كنا ... السودنة دي هي البتخلينا لغاية هسة نفضل نشرب الحلو مر بالرغم من توفر حاجات تانية اسهل وارخص في رمضان ... وهي البتخلينا نقول الله لمن نشم ريحة بخور الصندل والتيمان ... السودنة دي هي الخلت دكتورة نادين تتخلى عن العز َوالراحة في سويسرا .. تخلي راجلها واولادها ووظيفتها عشان تجي للبلد الحزين التعبان دة ....
ثم اكمل جملته ساخراً .. يا جماعة انا رائي نديها فرصة ... ولو ما عجبتنا طريقتها .. ممكن تاني نعمل ثورة ونشيلها بيها ... ولا شنو ؟؟!!







المنظر الثالث
راكوبة في نهاية حوش كبير بمنزل في احدى قرى السودان ...

كان الرجل العجوز مضطجعاً على جنبه اليمين في (عنقريب) قصير مجدول بالحبال وهو يستمع الى الاخبار من راديو صغير موضوع على طاولة خشبية امامه ... يد تسند الراس الابيض واخرى تحمل كوب شاي احمر يتصاعد دخانه ناشرا اريج النعناع في المكان ... كانت طقطقات لسانه من فمه الخالي من الاسنان تدل على انزعاجه الشديد ...وهكذا وجدته حفيدته عندما اتت تحمل صينية مستطيلة بها كاس كبير من الحليب فقد لونه الابيض واصبح يميل الى الصفار ... اضافة الى صحن صغير يحتوى على تمر منقوع في الماء ... خاطبت الحفيدة جدها بحنان وحب ... فهو من تولى تربيتها بعد وفاة والدها في سن مبكرة عندما عادت بها ابنته الارملة الشابة الى بيته ورفضت الزواج كي تتفرغ لرعاية ابنتها ... : جدو كيف اصبحت ؟؟!! انت لسة ما خلصت الشاي ؟؟ انا جبت ليك الفطور ...
رد عليها بصوت قوي لا يتناسب مع اعوامه المائة وفمه الخالي من الاسنان .. تعرفي يا فريدة يا بت عبد الكريم الخير خلاص دة آخر الزمن ... والقيامة قربت تقوم ... نظر بامعان الى كوب الحليب : يا بت انتي ختيتي ملعقة السمنة البلدية في اللبن ولا سمعتي كلام امك الغبيانة .. كل يوم تنقنق فوق راسي وقال شنو ؟؟ شراب السمنة بيجيب المرض ... مرض شنو ؟؟ هو انا كان ما السمن البلدي السمح دة كان مت زمان ...
انتفضت الحفيدة لدى سماع كلمة الموت ووضعت الصينية من يدها بحرص ثم جلست بالقرب من جدها واحتضنته وقبلته في خده المتغضن .. بعد الشر عليك يا جدو عليك الله ما تجيب سيرة الموت دي قدامي ... كان تعتبره صديقها ومستشارها ودليلها ... مرجعها في شئون الحياة ... رد الجد السعيد بحب حفيدته ... ما اجيب سيرة الموت ؟؟؟ هو انا باقي لي شنو غير الموت ... يعني ماشي اخلّد في الدنيا دي ولا شنو ... كبيتي السمن ولا لا ؟؟ ردت الحفيدة بسرعة : كبيتوا يا جدو وكمان ختيت زيادة شوية من المعلقة الكبيرة ودة البلح بليته ليك من بالليل عشان يبقى طري شديد ... وبعدين يا جدو مالك علينا بتقول القيامة عاوزة تقوم ودة آخر الزمن .؟؟ الحاصل شنو ؟؟
عاد يا فريدة يا بتي لمن تحكمنا ( مــرة ) دي مش تبقى علامات الساعة وآخر الزمن ؟؟ يعني السودان دة كلو خلا من الرجال جايبين لينا ( الغلفا ) مرة النصراني دي عشان تحكمنا ؟؟ شن عرفها بينا الكافرة دي ؟؟ احتجت الحفيدة بحرارة .. : جدو ؟؟
شنو ؟؟ ما عجبك كلامي ؟؟ هو أنا قلت شنو غير الحقيقة ؟؟ ايوة ( غلفا ) وكافرة ؟؟ مش راجلها نصراني تبقى هي كافرة ... انتي قايلاني خلاس كبرت وما باعرف افرق بين الصح والغلط ؟؟ انا صحي قربت على المية سنة لكن انصح منك ومن امك الغبيانة .. وبعدين البت دي مش ابوها قتلوه قبال كم يوم ؟؟ لسة دمه ما برد وجات جارية تمسك الحكم ؟؟ هو ابوها دة زاتو مش ابوه قتلوا زمان وطلع خلى البلد .؟؟ الرجعو شنو تاني ؟؟ وناس الحزب بتاع ابوها ديل زاتهم عاوزين يبقوا ملكيين اكتر من الملك ... افكار حزبهم دي زمان اسيادها اتخلوا عنها وهم لسة ماسكين فيها ؟؟!! ... وكمان يتبجحوا ويقولوا ليك احنا اخدنا الفكر مش العقيدة .. فكر شنو ؟؟ هو في فكر احسن من فكر الاسلام ؟؟؟ في حكمة اكتر من حكمة القرآن ؟؟ .. ولا هو بس تقليد للناس البرة والسلام ؟؟ ..
كانت فريدة تتعامل مع جدها باحترام كبير .. فهو رجل متعلم ومثقف وان كان من الطراز القديم الذي يؤمن بدور المراة كزوجة وربة منزل فقط ... فحاولت ان تتناقش معه بهدوء : يا جدو دكتورة نادين دي انسانة ملسمة ... بتصلي وبتصوم وكمان مشت العمرة اكتر من مرة ... وبعدين راجلها ما نصراني ... راجلها مسلم .. هو صح اسلم قبل زواجهم بفترة بسيطة لكن الله هداه على يدها ودي براها تدخلها الجنة ... وكمان مشى الحج ... انا قريت عنها في الانترنيت في صفحات بتتكلم عن حياتها ونشاتها وتعليمها ووظيفتها وزواجها وكل شئ من يوم ما اتولدت لغاية هسة ... صدقني يا جدو دي انسانة جديرة بالاحترام ... واضافت بهمس يملؤه الحياء ... بعدين يا جدو انت مش عارف انو السودان كلو بقى ( اغلف ) بقرار حكومي ؟؟ وانو الحكومة من زمان منعت الخفاض وبتعاقب أي زول يمارسه بالسجن ؟؟
شمّر الجد كم جلبابه دلالة على الغيظ : ما هو دة الفلحت فيهو حكومة السجم والرماد ديك ... خلت أي شئ ومنعت الطهور .. عشان كدة البنات فسدن وانطلقن .. مالن نسوان زمان ؟؟ ما كانوا بيطهروهن وكل شئ تمام ... هسة بقى الطهور سبب كل المشاكل الفي الدنيا ؟؟صحي آخر الزمن !! ..وطقطق لسانه وهز راسه هزات متتالية وهو يلوك كلماته بعناد : ومهما قلتي ما حتخليني اغير رائي وحاقولها بالصوت العالي " ما عاجبني انو ( مـرة ) تحكم البلد .. وكمان واقفين وراها رجال ؟؟!! انشاء الله الرجالة تطير ... هم ما عارفين انو المرة كان بقت فاس ما بتقطع الراس ؟؟ ... وبعدين تعالي يا بت انتي بتدافعي عنها ليه ؟؟ اوعاك تكون الجامعة خربتك وانضميتي ليهم ؟؟ قبال سنة وقتين اتحجبتي فرحت بيك لكن شلت هم تكوني بقيتي مع حزب الخراب داك .. بس قلت لروحي بتي الربيتها مستحيل تبقي مع الناس الكعبين ديل ... كدي وريني انتي مع ياتو جماعة ؟؟
ضحكت الحفيدة بمرح وهي تضم جدها .. يا جدو حرام عليك انت عارف انا لا ديل ولا ديل بينفعوا معاي ... صحي كل مجموعة منهم ممكن يكون عندها ميزات كويسة ... لكن بالنسبة لي انا شايفة فيهم حاجات ما باقدر اتعامل معاها المجموعة الاولى بناتها سمجات وعندهم انفصام في الشخصية قبلوا حاجات ضد طبيعتهم وفطرتهم كنساء بس لانه حزبهم امرهم انهم يقبلوها ... نظرتهم للدنيا مسوّرة بحدود هم صنعوها بايدهم وما عاوزين يطلعوا منها برغم انهم ما مقتنعين بيها ... أما المجموعة التانية بناتها لسانهم طويل شديد ومسترجلات وعاملين فيها انهم فاهمين أي شئ في الدنيا وانو مافي زول زيهم ...
يا جدو انا بت سودانية عادية رباها راجل اصيل زيك عشان كدة طلعت متوازنة وطبيعية لا عندي تحفز تجاه الحواليني بدون سبب ولا محتاجة اثبت لاي زول اني كائن جدير بالاحترام لاني احترامي لنفسي هو البيفرض على الكل يحترمني وما ضروري اثبته بالصوت العالي وافتعال المشاكل ... باتعامل مع الدنيا بتلقائية وما باضيع وقتي في محاربة طواحين الهواء ... كل شئ عندي ليهو سبب وكل موقف ليهو اسلوب خاص يتعالج بيهو ... مش انت علمتني كدة ؟؟
ابتسم الفم الخالي بحبور وتمتم " عافي منك يا بت يا سودانية " برغم انو امك الغبيانة ابت تسمع كلامي لمن قلت ليها تطهرك .. لكن انتي بت زي الدهب وما بينخاف عليك ..
ردت الحفيدة بغمزة : يعني يا جدو ما عدم الطهور هو البيخلي البنات يفسدن ؟؟
هزّ الجد راسه بحكمة المائة عام التي يحملها : لا يا سودانية ..دة كلام ساكت باقوله ساعة الزعل .. الفساد دة عدوى يا بتي .. واحنا مشكلتنا فسادنا بدا فوق عشان كدة اتدحرج بسرعة وغرق كل شئ تحته .. ولو كان رب البيت بالدف ضارباً ... ما بتقدر نلوم اهل البيت لانهم بقوا رقاصين ... ولمن يفسد الراعي ... بتفسد الرعية ...
ثم رفع العجوز راسه بعناد : لكن برضه تحكمنا ( مــرة ) ؟؟!! والله دة آخر الزمن !!! والرجالة تطير !!!...


المشهد السابع
المنظر الاول – العاصمة واشنطن – البيت الابيض
كانت الساعة المعلقة في مواجهة المكتب الفخم من خشب المهوقني الداكن تشير الى الحادية عشرة والنصف مساء ... ساد الهدوء الا من اصوات متباعدة تسبح كالوهم في خيال متعب ... على كرسيها الوثير جلست رئيسة الولايات المتحدة وهي تعبث بقلادة مخفية تحت قبة قميصها الحريري ونظراتها الساهمة تحدق في اللاشئ ... فتح باب المكتب بعد طرقات خفيفة ودخل منه رجل حاد الملامح يحمل نظرة ثعلب وحركة ثعبان ... ابتسم محيياً الرئيسة التي عادت من شرودها وردت عليه باحترام ... مرحباً ريتشارد .. كيف تسير الامور ؟؟
جلس بدون ان ينتظر دعوة ... فتح صندوق خشب الورد الموجود في الطاولة الصغيرة امامه ... تناول السيجار الكوبي الفخم ... اشعله بتؤدة ثم اجابها : ان الامور تسير بافضل من افضل توقعاتنا ... ابتسم ساخراً انها المرة الاولى التي ندخل فيها بلداً دون ان نريق قطرة دم واحدة او نتكبد سنتاً واحداً ... الامر لم يحتاج منا الى اكثر من رجل شديد الولاء لنا ويملك قدرة هائلة على الاقناع استطاع بها ان يجعل شعباً كاملاً يؤمن بان الخلاص سوف يكون على يديه ... لا ادري لماذا لم نلجا لهذه الطريقة عندما غزونا سوريا وايران وليبيا ؟؟ كنا وفرنا على انفسنا الكثير من الاموال والدماء ... والانتقادات .. الآن فقط ادركت بان اجمل الاعمال هي التي تتم من وراء الكواليس ...
ردت الرئيسة بصوتها المبحوح : اننا نتعلم يا عزيزي ... هؤلاء العرب لا يمكن التعامل معهم باسلوب واحد .. كل دولة تحتاج الى طريقة مختلفة عن الاخرى ... كل دولة لها مفتاحها .. بعضهم مفتاحه المال ... وآخرون نلوح لهم بجزرة المساعدات او الحماية ... والبعض الاخر مفتاحه مجرد كلام حتى لا نحتاج ان نقوله بانفسنا ... لكنهم جميعا يجتمعون في صفة واحدة " الغباء " فهم لا يدركون بانهم يفتحون لنا ابوابهم بانفسهم ويدعوننا للدخول ... ولا يدركون ما حدث لهم الا بعد فوات الاوان ... نحن نفوقهم ذكاء ... وذكاءنا وحده سوف يجعلنا قريباً نسيطر على كل ما كان لنا منذ زمن طويل ... من النيل الى الفرات .. لحظتها لمعت عيناها وتوقفت يدها عن العبث بالقلادة اخرجتها من تحت قميصها ونظرت اليها بوله وهي تتامل حبات الماس التي تلمع في خلفية من الذهب الابيض مشكلة نجمة خماسية الاضلاع ... واعقبت النظرة المتواطئة بين الثعلب وربيبته ضحكة مدوية ...

المنظر الثاني
العاصمة الخرطوم – القصر الجمهوري
جلست نادين وراء مكتبها وبين يديها عدد لايستهان به من الملفات والاوراق ... كانت تبدو متعبة وارتسمت دوائر سوداء حول عينيها الحزينتين ... على الكراسي المواجهة لها جلس البروفسير أحمد نجيب والبروفسير جلال حمدين الذي طلبته نادين على عجل من مقر عمله بالمانيا حيث يشغل منصب مستشار اول بوزارة المالية ... كانت دراسته وخبرته الطويلة في ضبط الموازنات الحكومية مثار فخر لكل السودانيين ... وبرغم حصوله على الجنسيتين الالمانية والكندية الا انه لم يتنازل قط عن جنسيته السودانية .. في الطرف الآخر من الغرفة جلس الدكتور أمير جادين وهو ما زال بملابس السفر بعد ان تم استدعاوه من ايرلندا حيث يعمل كاستشاري في وزارة الصحة ... وفي مواجهته جلست الدكتورة فتحية ابو العزائم التي وصلت قبله بساعات من الدوحة بعد ان تركت وراءها عدد كبير من الطلبة في قاعة المحاضرات بجامعة قطر وهم يستعدون لمحاضرتها الاسبوعية عن الاساليب المتطورة في التعليم من خلال خلق الروابط بين الطالب والمعلم ... برغم منصبها كمديرة للجامعة ... الا انها كانت تلقى محاضرة اسبوعية يحرص كل الاساتذة على حضورها بسبب تميز المواضيع التي تطرحها الدكتورة في مجالات التعليم المختلفة ...
رفعت نادين راسها وخاطبت الجمع الفريد : يا جماعة ... اول شئ انا مدينة ليكم كلكم باعتذار وشكر الاعتذار لاني طلبتكم على عجل بدون انذار وانا عارفة انو بعض منكم حيكون خلى ارتباطات مسبقة الشكر لاستجابتكم السريعة للنداء ... الموضوع ما محتاج كلام كتير ... البلد محتاجة ليكم .. انا متاكدة انو كل واحد فيكم ليهو وضع مميز في المكان الجا منو ... انا ما حاوعدكم انكم تلقوا نفس الوضع المميز دة ... لكن بس حاقول ليكم انكم حتبقوا ناس مميزين ... مش عشان المناصب الحتمسكوها ... لا ... عشان الشئ الانتو حتعملوه للبلد ولناس البلد ... السودان بيمر بمرحلة حرجة جداً ... الشعب تعبان ومجروح ومحتاج ليد نضيفة تضمد جرحه وتزيل تعبه ... السودان محتاج لناس يختوه في الاول قبل مصالحهم ... من هسة العنده الاستعداد يقعد ... والما عنده ما حالومه لانه دة خيار مليان تضحيات ... ملان معاناة .. وما عنده مقابل مجزي ...
رفعت الدكتورة فتحية يدها طلبا للكلام ... يا دكتورة نادين بدون شعارات فارغة جوفاء ... السودان دة بلدنا واحنا فداهو ... اعتقد انو معظمنا لمن طلع ما كانت مشكلة مادية بحتة ... يمكن العائد المادي المرتفع كان حافز قوي عشان نطلع ... لكن السبب الاساسي كان الاوضاع الحاصلة وضغطت علينا وخلتنا نقرر نسيب البلد ... انا عن نفسي مستعدة ارجع لو محتاجين لي وفي أي مكان تختاروه ..
كانت عبارات التاييد تتدافع من بقية العقد الفريد ... وعلى وجه نادين المتعب تدحرجت دموع الفرح والامتنان وارتسمت ابتسامة السعادة ...
على وجه البروفسير أحمد نجيب عزّ الدين ارتسمت تقطيبة حادة ونظرة غامضة غريبة ...

المنظر الثاني
حي هاواي الجديد - قصر البروفسير احمد نجيب
امام البوابة الحديدية الفخمة تراصت عدة سيارات حديثة الطراز ومعظمها يحمل لوحات دبلوماسية ..من فتحات السور ظهرت حديقة منسقة بذوق باذخ .. مفصولة بممر طويل من الرخام الوردي يصل حتى بوابة القصر الداخلية المصنوعة من الحديد المشغول باشكال هندسية وورود بارزة بالوان النحاس والذهب معكوسة في الخلفية المصنوعة من الزجاج المعشق ... داخل الصالة الفسيحة كانت اطقم الجلوس الموزعة بذوق تعكس مدى ثراء اصحاب البيت ... في احد الاركان جلس البروفسير أحمد نجيب وكان برفقته ما لايقل عن سبعة اشخاص يدور بينهم نقاش جاد صرف انتباههم عن شرب الشاى الذي توقف دخانه عن التصاعد منذ وقت طويل
كانت لهجة البروفسير الامريكية الصرفة مليئة بالعصبية والحّدة : آخر شئ اتخيلته انها تهمش رائي وتصر على استدعاء ناس من برة عشان يكونوا حكومتها الجديدة ... انا كنت محضر ليها لستة جاهزة فيها اسماء ناس كلهم موالين لينا وحينفذوا كل الاحنا عاوزينه ومخططين ليهو بدون نقاش ... شافت اللستة وطلبت مهلة يومين تفكر فيهم وفاجأتني ثالت يوم بلستة تانية خالص ... ولا اسم من الاسماء الانا مرشحها ما فيها ... وعادت به الذاكرة الى النقاش الذي دار بينه وبين نادين عقب رفضها لقائمة مرشحيه ... كانت تخاطبه بادب وبرود .. في صوتها ونظرة عينيها تصميم ذكره بابيها الراحل : عمو احمد انت عارف انا باحترم رايك قدر شنو ... وما باحب انزل ليك كلمة ... ومن يوم ما رجعنا وانا خاتاك في محل الوالد الله يرحمه وبالجا ليك في كل صغيرة وكبيرة ... لكن بالنسبة للاسماء الانت مرشحها انا درست كل اسم على حدة بعد ما طلبت معلومات كتيرة عنهم ... وبصراحة بعد العرفته عندي تحفظات قوية عليهم وما مقتنعة انو هم ديل الناي الممكن اعمل منهم حكومتي ... يمكن هم كاسماء كانت معارضة بشدة للنظام الفات ما عليهم كلام ... لكن السؤال المطروح هو هل كل من كان معارض بيصلح يمسك منصب حساس ؟؟!! ما اعتقد ... وانت اكتر واحد يا عمو احمد عارف الشئ دة لانو التجارب الحصلت زمان وانت عاصرتها اثبتت انو ما شرط أي معارض لنظام سابق يكون جزء من الحكومة الحالية ... البلد بتمر بمرحلة حرجة يا عمو واحنا محتاجين ناس تشتغل باخلاص ونكران ذات ما ليه حد ... بياعين الكلام ما لازميننا ... ثم ثبتت نظراتها على عينيه وهي تساله بدهاء امراة لا تقبل المداهنة ... بعدين يا عمو احمد انت لمن عندك حكومة جاهزة في لستة محضرة مسبقاً ليه تعبت وجبتني هنا ؟؟ ما كان تخت أي واحد من ناسك ديل ؟؟!! ولا انا عاوزيني اكون مجرد واجهة ... دمية ما ليها دور ؟؟ سامحني يا عمو اذا اعتذرت اني العب الدور دة لاني ما باجيده واذا اصلا الوضع كدة انا بافضل انسحب من هسة ارجع سويسرا واخليك انت تكون الحكومة العاوزها ...
صممت فترة كأنها تعطيه فرصة ليستوعب مغزى كلماتها ... كان صمته المحرج اكبر دليل على وصول رسالتها بشكل واضح ... رفعت ورقة من مكتبها واعطتها له وهي تبتسم ... عمو احمد ... ديل الناس الانا عاوزاهم معاي في الحكومة ... متاكدة انك حتقدر توصل ليهم وتطلب منهم يجوا يقابلوني باقصة سرعة ممكنة .
افاق من شروده على صوت ريتشارد عزرا المنزعج وهو يساله : ما معنى هذا ؟؟ هل فقدنا السيطرة على الوضع هنا يا بروفسير ؟؟؟ لقد احضرناك هنا لهدف معين .. ووعدتنا بان كل شئ سيكون تحت سيطرتنا خلال فترة وجيزة ... كنا نملك البديل لتولي السلطة ولكن انت من قام بترشيح هذه الطفلة كي تتولى الحكم بعد ان اقنعتنا بقدرتك على توجيهها في الاتجاه الذي يخدم مصالحنا ويعزز وجودنا ... كيف تفاجئنا الان بانها رفضت كل رجالنا وطالبت بحضور نكرات كي يمسكوا زمام الامور ؟؟ هل تخبرني بان كل هذا التخطيط ضاع هباء ؟؟ وان كل مجهوداتنا ودعمنا الذي وفرناه حتى نوصلها الى كرسي الرئاسة قد ذهب ادراج الرياح ؟؟ اصبح صوته كالفحيح ... تسارعت انفاسه وتلون وجهه بلون احمر قان ...
قاطعه البروفسير احمد نجيب بحدّة وثقة من يعرف مكانته .. مستر عزرا .. ما يحدث لم يكن متوقعاً ابداً ... لم اضع عصيانها في حسباني ... ظننت انها ستكون طيعة تحت يدي فاشكلها كما اشاء ... اعتمدت على قلة خبرتها وخوفها الذين سيجعلانها تحت رحمتي ... لكنها اظهرت قوة وعناد ادهشاني ... ثم اضاف ساهماً : او ربما كان يجي ان اتوقع هذا ؟؟؟ فهي ابنة ابيها ... سرعان ما استعاد السيطرة على صوته : لم استطع الطعن في اختيارها للاشخاص الذين ترغبهم ... كل منهم علم على راسه نار في مجال عمله .. أي محاولة رفض من جانبي ستكون غريبة ومستهجنة وقد تثير الشكوك ... انها طفلة كما ذكرت انت ... والاطفال يحبون الالعاب الجديدة يستميتون في التمسك بها والمحافظة عليها ... لكنهم سرعان ما يشعرون بالملل والتعب فيهملون اللعبة ويغمضون اعينهم طلبا للنوم ... سنجلها تلهو قليلاً بالحكم والسلطة ... وعندما تتعب وتملّ سنكون جاهزين ... وعندما تغمض عيناها .. سننقض ونرجع الامور الى نصابها ... الامر فقط يحتاج الى قليل من الصبر ... وكثير من الحكمة ...
نفث ريتشارد عزرا دخان سيجاره الكوبي بعصبية وهو يتمتم ... حسناً .. سوف ننتظر ونرى ... فقط آمل ان لا يطول انتظارنا طويلاً ...





المشهد الثامن ... والأخير ...
الخرطوم العاصمة عام 2022م
القصر الجمهوري – قاعة الاجتماعات الكبرى .

كانت القاعة تعجّ بالحضور ... رجال ونساء .. وشباب .. تبدو عليهم سيماء الاحترام ... بعضهم جلس صامتاً وهو يقرا اوراق بين يديه .. بينما اندمج البعض الآخر في نقاشات هامسة ..
فتح باب في آخر القاعة وعم الصمت عندما ظهرت في المدخل الدكتورة نادين بطلتها البهية وعلى وجهها ابتسامة ودودة .. مرحبة ... مشرقة ...حيت الحضور ثم جلست بحرص على كرسيها وهي تحاول ان تجد وضعاً مريحاً يناسب بطنها المنتفخ ... كانت قد وصلت الى شهرها الثامن ولم تعد الملابس الفضفاضة تخفي حملها .. ابتسم الجميع بتعاطف وحب لهذه المراة الرقيقة التي صنعت المعجزات .. تطلعت الى الوجوه ... تفقدت الحاضرين ... سالت عن الغائبين .. ثم بدات حديثها بصوت ملئ بالثقة ..
بسم الله الرحمن الرحيم .. والصلاة والسلام على حبيبنا اشرف الخلق اجمعين ... ارتفعت تمتمات الصلاة على الحبيب المصطفى من جميع الافواه ثم عم الصمت مرة اخرى بانتظار كلمات الرئيسة..
اول شئ يا جماعة احب انوه بانو دة حيكون آخر تقرير أداء احضره معاكم السنة دي واضافت بخجل " نسبة لظروفي الصحية " لكن تاكدوا اني دائما حاكون معاكم ومستعدة اتلقى اتصالاتكم في أي وقت واي مكان ... يلا خلونا نبدا ... اتفضلي يا فتحية ...
بدات الدكتورة فتحية ابو العزايم وزيرة التربية والتعليم حديثها بشكر الرئيسة ثم قدمت تقريرها ... بحمد الله تعالى وتوفيقه ... وبواسطة الدعم الكبير المقدم من وزارة المالية قدرنا السنة دي نفتح 16 مدرسة ابتدائية في مختلف المناطق بالدولة .. تم تجهيزها باحدث الوسائل التعليمية من كمبيوترات ومعامل وكتب .. اضافة لكادر متميز من المعلمين المؤهلين لكل مدرسة ... في المناطق البتعاني من مشاكل عملنا نظام وجبة الافطار المجانية للطلاب المعسرين اضافة لحوافز مالية للطلاب المتفوقين .
بالنسبة للمدارس الخاصة سنينا قانون صارم لانشاء مدارس جديدة ووضعنا حد للمغالاة في اسعارها علماً بأنو تقاريرنا بتاكد عزوف معظم الناس عن المدارس الخاصة بعد ما بقت المدارس الحكومية في مستوى اعلى منها ...
بالنسبة للجامعات اكتفينا بالعدد الكبير الموجود اصلا لكن بذلنا جهد كبير في اننا نطورها .. غيرنا المناهج وطرق التدريس بحيث انو الطالب البيتخرج من الجامعة بيكون ملم بكل الاشياء الدرسها ومستعد ينخرط في العمل مباشرة ... عملنا نظام لتدريب طلبة الجامعات اثناء سنوات الدراسة الاخيرة لقاء اجر رمزي ... بعدها كل جهة بتستقطب الطلاب المتميزين للعمل عندها بعد التخرج مباشرة .. اعدنا نظام السكن الداخلي لطلاب المناطق البعيدة ووفرنا فيه كل سبل المعيشة المريحة للطالب من وجبات مجانية ومكتبات ومسارح واركان للنقاش ..
الحمد لله خلال الستة سنوات المضت قدرنا نصلح كتير من الدمار الطال بالمؤسسة التعليمية في فترة الحكم السابق ... وبدينا برنامج مكثف لبناء الطالب السوداني نفسه وتخليصه من الافكار الفاسدة المزروعة في راسه ... بدينا نخت لبنة انسان سوداني جديد .. واثق من قدراته ومؤهل للقيادة .
الحماسة على الوجوه اشعرت الدكتورة فتحية بفرح غامر لانجازات وزارتها فالقت التحية وانهت تقريرها ليعقبها الدكتور صلاح جادين .. وزير الصحة ..
بسم الله ابدا ... والحمد لله اقول باننا خلال السنة الماضية قمنا بافتتاح 22 مركز صحي في مدن السودان من شماله لجنوبه وبكدة يبقى عدد المراكز الصحية التم انشاءها منذ تولينا الحكم هو 134 مركز صحي في كل المدن والقري الكانت في اشد الحوجة ليها ... في كل مركز عملنا وحدة غسيل كلى متطورة وركزنا على وحدة علاج لامراض السرطان في مناطق الشمال لانه منتشر هناك اكتر من أي مكان تاني .. بينما ركزنا على وحدة علاج الحميات وامراض الكبد الوبائية في المناطق الجنوبية ... اهم انجاز في الفترة دي هو اتاحة مجانية العلاج لكل مواطن ابتداء من الكشف وانتهاء بصرف الدواء ... حددنا اسعار الاطباء في العيادات الخاصة منعا لاستغلال المواطن ... عملنا وحدات طوارئ متحركة في كل الطرق الرئيسية .. وانشانا وحدة متكاملة من الاسعاف الطائر لحوادث الطرق والحالات المستعجلة ..
بالنسبة للمستشفيات القديمة .. أي مستشفى انتهى عمرها الافتراضي هديناها وبينينا بدلها مستشفى جديد ... استوردنا احدث الاجهزة والمعدات وكمان الفترة دي شهدت عودة اكبر عدد من الاطباء المهاجرين برة السودان بعد ما بقت مميزاتهم هنا احسن من أي بلد تاني ..
وهكذا توالت التقارير التي تؤكد الطفرة المادية والحضارية في السودان ... طفرة باتت واضحة من الطرق والجسور والانفاق ... من الشوارع والبيوت والمباني ... طفرة واضحة في ملامح افراد الشعب ... فقد حل الفرح مكان البؤس ... والرضا مكان القنوط ... اتت الراحة بعد التعب ... وصار الانسان ... انسان ...


نهاية مفرطة في التفاؤل مغرقة في الخيال ؟؟ اعترف باني احب النهايات السعيدة .. ربما تعويضاً عن العيش في واقع تعيس ؟؟ او ربما هذا حلمي لوطني ... ما زال الحلم متاحاً اليس كذلك ؟؟!! ما زال مجاني وحر لا يخضع لقانون الجباية ولم تاسره قضبان السجان ؟؟!! يبقى خلوني احلم ...


خلوني احلم بوطن زاهي وجميل .. عيونه نيل .. وبسمته فيها السمار سنة وفرض ..
خلوني احلم بوطن .. فيه القطاطي بقت قصور .. فيه الشوارع مطلية بموية الدهب .. الميادين روضة غناء... والحواري قصيدة ناعمة .. خلوني احلم بوطن .. فيه العلم اصبح بلاش .. فيه الحلم اصبح متاح .. فيه الامل سكن البيوت .. فيه الالم رحل انتهى ..


خلوني احلم بوطن .. فيه الصغار ما بتعرف الآم الكبار .. وفيه الكبار زي الجهال .. نقية طاهرة ... ما بتعرف اسرار الودار .. خلوني احلم بوطن .. فيه السجون بقت متاحف .. وفي كل بيت .. بدل القبول والشواهد .. نلقى بسمة .. نلقى ضحكة .. نلقى بهجة .. اتوهطت عشم النفوس .. وطردت احزان الغلابة .. خلوني احلم بوطن .. فيه القروش حاجة تافهة .. زي الملح لازم تكون في كل شئ موجودة قاعدة .. لكن كمان .. ما بيها بنقيّم بشر ... ولا فيها بيموت البشر ...

خلوني احلم بوطن .. فيه الصلاة عبادة خالصة للاله .. ما فيها شبهة انتماء لجماعة ضالة .. ولا امام ناسي الكتاب ... ناسي الحديث .. كل همه انو يعكس صورة زايفة .. صورة لامعة .. تستر العفن الوراههو .. وتدس بلاهو من الخلوق .. خلوني احلم بوطن .. فيه الحلال طرد الحرام .. فيه اللسان ادمن اهازيج الكلام .. فيه العيون نست الدموع .. فيه التعب مات انتحر .. فيه الهواجس سافرت .. بدون رجوع .. خلوني احلم .. ولسة باحلم .. وبرضه حاحلم ..

1 comment:

ashes said...

دي بجيها بي مزاج دقيقة بس