Followers

Saturday, July 22, 2006

قصاصات سرية ) مجموعة قصص قصيرة من عمق المجتمع السوداني )

( مجموعة قصص قصيرة من عمق المجتمع السوداني )

في داخل كل منا تكمن نزعة غريبة للتلصص على الآخرين واختلاس النظر من وراء شقوق الأبواب المغلقة ... واستراق السمع خلف الفواصل الهشة .. هناك لذة غامضة يستشعرها المتلصص عندما يرى ما لا يراه غيره أو يتعمّد التنصت على حديث لا يرغب أصحابه في نشره خارج نطاق الموجودين . أدرك بان البعض منكم قد مطّ شفتيه استهجاناً وهو يقرا كلماتي الصريحة عن فعل يمارسه معظمنا بطريقة مستترة .. وبعضنا الآخر بكل جرأة ... إذن يا قرائي الأعزاء سأطرح عليكم سؤالاً يحتاج لإجابة صادقة .. قولوها لانفسكم وليس لي .. فأنا قد تخطيت مرحلة الخوف من الاعتراف بعيوبي منذ زمن طويل .. سؤالي لكم ... هل أتتكم فرصة لاستراق النظر أو اختلاس السمع وتهيأت لكم كل الظروف لممارسة هذه العادة المتأصلة داخل النفس البشرية وترفعتم عنها ؟؟ هل أغمضتم أعينكم عن مشهد يستحق المشاهدة ولكن ليس لكم حق مشاهدته ؟؟ هل صممتم آذانكم عن حديث حار وهامس يدور بسرية بين اثنين شاءت الظروف أن تكون أنت ثالثهما الذي لا يعلمان بوجوده ؟؟ لو تحرى الجميع الصدق في الإجابة يعتريني الشك أنها قد تكون بنعم .. هل تدرون لماذا ؟؟ لأننا بشر .. والفضول جزء من تركيبتنا التي تدفعنا بصورة لا إرادية للتلصص .. أنا اعترف بفضولي الزائد لمعرفة خبايا الآخرين وقد شاءت الظروف أن تضعني في مكان وزمان استطعت فيهما أن استرق النظر وتبحر حواسي في دفاتر يوميات نساء مختلفات لا يجمع بينهم سوى شغفهن الغريب لتدوين أحداث مرت بهن بكل صدق وتجرد لأنهن كتبنها لانفسهن ولم يحسبن حساب الأعين المتلصصة ... لقد قرأت قصاصات غاية في السرية لعشر نساء لا تجمع بينهن صلة غير نون النسوة ... وبما أني أدرك فضولكم ولهفتكم لمعرفة الأسرار التي تم تدوينها في لحظة فرح أو يأس .. حزن أو أمل .. قررت أن اقتسم معكم إثم التغلغل داخل حرمتها ... هذه القصاصات التي كتب بعضها بالدموع ... وبعضها بالدم . عفواً لقد قمت بتغيير الأسماء والأماكن حفاظاً على خصوصية أصحابها ... وإذا تشابهت الظروف والأحداث مع امرأة تعرفونها .. سيكون الأمر مجرد صدفة بحتة
************************************************************************ .

قصــاصــة مــن دفتـــر يوميـــــات عــانــس

____________________
الاثنين الأول من أبريل .. الساعة السابعة صباحاً
... يا له من تاريخ ارتبط في أذهان الناس بالكذب المشروع ...اكره هذا اليوم ابغضه أتمنى لو كان بإمكاني أن أتحكم بالزمن فاعيد عقارب الساعة إلى الوراء واشطبه من التقويم .. أن امحي ذكراه من الوجود وامحي وجودي ايضاً ... اليوم يصادف ذكرى ميلادي السادس والأربعين .... هل توافق تاريخ ميلادي مع هذا اليوم دلالة على أن حياتي بأكملها كذبة ؟؟ ربما كانت كذلك .. في كل سنة أكرر نفس السؤال .. لماذا ولدت ؟؟ ولأي هدف أعيش ؟؟ ما معنى حياتي ؟؟ كل لحظة تمر هي إعادة للحظات سابقة أو آتية .. بلا أمل ولا رغبة ... ولا يقين . الساعة السابعة والنصف... لابد أن انهض لامارس الروتين اليومي المعتاد قبل ذهابي إلى عملي الممل بالبنك .. ثم العودة منه إلي روتين البيت ... الأكل الذي فقد مذاقه منذ زمن طويل .. النوم الملئ بالكوابيس .. الفراغ العريض الذي يبتلع روحي وهكذا تمر أيامي في طريقي إلى الحمام سمعت أصوات هامسة تخرج من غرفة أمي .. اندهشت لهذا الهمس المبكر .. نظرت من شق باب غرفتها الموارب لارى أمي بوجهها الصبوح الذي حفر عليه الزمن آثاره وهي تتطلع بانزعاج إلى وجه أخي الأصغر مجدي .. كان الحزن يصبغ ملامحها وصوتها " يا مجدي يا ولدي كيفن بس عاوز تعرس وأختك لسة قاعدة ؟؟ كان همس مجدي الذي يصغرني بعشر سنوات يتلاشى بفعل العصبية .. وارتفع صوته بحدة خرجت عن حدود السيطرة " يعني يا أمي عاوزاني اقعد استنى منار لمتين ؟؟ أنا ما صغير عمري ستة وتلاتين سنة .. عاوز أعيش حياتي زي باقي الناس ويكون عندي أسرة وبيت وأطفال ... منار خلاص ما عندها فرصة عرس بعد كدة وهي ذاتها مقتنعة بالشئ دة وما بتفكر في الموضوع خالص .. انتي بس العاملة منو قضية" ..
أغرقني صوت أمي في بحر من الألم " منو القال ليك ما بتفكر فيه ؟؟ يعني عشان هي صبورة وساكتة وما بتتشلهت على العرس ؟؟ مالها ؟؟ ما زيها زي باقي البنات ؟؟ ما نفسها تفــرح ويكون عندها راجــل وبيت وعيال ؟؟ كان رد مجدي الساخر كحقل شوك أجبروني على السير فيه حافية " يا أمي الله يخليك راجل شنو وعيال شنو بعد العمر دة ؟؟ إذا كانت مايسة الأصغر منها بخمستاشر سنة بتها قربت تدخل الجامعة .. منار خلاص سنها زاتو ما بقى يسمح بولادة ... وبعدين يا أمي ما أخواتي وأخواني كلهم اصغر منها وعرسوا .. اشمعنى أنا العاوزاني انتظرها ؟؟ ولو في أمل انو يجيها زول ما في مشكلة .. لكن منار خلاص كبرت شديد وبعد كدة ما أظن أي إنسان يفكر فيها .. حاجة تانية أنا البت العاوزها ما بتنتظرني اكتر من كدة .. بقى لي سنتين أماطل في بت الناس لمن حججي كملت لكن هسة هي قالتها لي صريحة لو ما عملت خطوة جادة واتقدمت لاهلها وحددت مواعيد العرس حتخليني وتتزوج واحد تاني .. تغيرت لهجته إلى الاستعطاف " يا أمي أنا بأحب البت دي وهي انسانة كويسة شديد ولو ضاعت مني ما بالقى زيها تاني .. حاولي تفهميني وتقيفي معاي " يبدو أن لهجته ألانت قلب أمي الحنون " خلاص يا مجدي استنى بس لغـاية نهـاية السنة دي ولــو ما في زول اتقــدم لمنار امشــي عرس ما باقول ليك لا ..
انفجر مجدي صارخاً بوجه أمي الذي حاكى وجوه الموتى شحوباً " يا أمي خليك معقولة .. إحنا وين ونهاية السنة وين ؟؟ عاوزاني انتظر ثمانية شهور تاني ؟ حرام عليك .. انتي بس همك منار ؟؟ أنا ما ولدك ولا شنو ؟؟؟ وبعدين منار آخر ثلاثة عرسان جوها رفضتهم... نعمل ليها شنو إذا هي عاوزة راجل تفصيل ؟؟ .. مفروض تقتنع إنها خلاص كبرت وفرصها بقت ضيقة وتوافق على أي زول يجيها انغرزت كلماته كالخنجر في قلبي ... فحملت قدمي وهرولت عائدة إلى غرفتي خوفاً من التهاوي ألما على عتبة باب أمي الموجوعة . بداية سيئة ليوم قبيح ... كان مجدي محقاً .. لقد رفضت ثلاثة عرسان أتوني خلال السنة الماضية .. ولكن لاسباب منطقية ومعقولة ... ليس من اجل الرفض .. وليس لاني ابحث عن رجل تتناسب مقاساته مع خيالي .. سأنتقل إلى صفحات سابقة من دفتري لاذكّر نفسي بأسباب رفضي .. العريس الأول .. عم أحمد .. نعم هكذا كنت ادعوه .. فقد كان صديق أبى المقرب ويكبرني بعشرين عاماً كاملة أي شيخ على أعتاب السبعين .. ماتت زوجته خالتي إحسان .. تزوج الأولاد والبنات فشعر بالوحدة وازدادت أمراضه .. أراد أن يعيد شبابه مع زوجة جديدة تصغره عمراً وتصلح أن تكون خادمة وممرضة في آن واحد رفضته برغم علمي بوجود الفياجرا في الأسواق ... العريس الثاني .. المهندس أسامة .. كان يشرف على بناء بيت ميادة أختي التي تليني في العمر ومتزوجة منذ خمسة وعشرين عاماً وقد أصبحت جدة منذ فترة قصيرة .. رآني صدفة عندما ذهبت أتفقد سير البناء تحت إلحاح بنات شقيقتي ... عرض علي الزواج شريطة أن اترك عملي .. واتفرغ تماماً لرعاية أولاده الثلاثة ... صبي في السادسة عشرة من زوجته الأولى المتوفاة .. فتاتين في العاشرة والسابعة من زوجته الثانية التي طلقها لأنها لم تحسن معاملة ابنه المراهق فتركت له بناته وتزوجت هي الأخرى ..بالطبع رفضته لأنني مقتنعة بعملي كرئيسة قسم الاعتمادات بالبنك الوطني وليست لي رغبة في استبداله بوظيفة مربية بدوام كامل ... العريس الثالث ... الموظف الجديد تحت إمرتي في القسم .. يصغرني بسبع سنوات لم يتزوج لضيق ذات اليد .. أتاني خاطباً بدعوى الحب كدت اقتنع وأتغاضى عن فارق العمر تحت ضغط أمي وأخواتي .. لولا مكالمة أتتني قبل الموعد المحدد لعقد القرآن بأسبوع من فتاة باكية تخبرني فيها بأنها حبيبة زوجي المنتظر منذ خمس سنوات وانه يعتزم الزواج مني فقط لتحسين وضعه المادي وضمان راتبي الكبير وبيت أسرتي الفسيح وسيارتي الفخمة .. رفضته لأنني اعمل في بنك .. لكني ارفض أن العب دور البنك .
الساعة التاسعة ... ما زلت مستلقية على سريري فقدت الرغبة في الذهاب إلى العمل اليوم .. من حقي الحصول على يوم عطلة امتلك رصيدا هائلاً من الإجازات .. كلما فكرت في اخذ إجازة ينتابني الفزع من فكرة البقاء وحيدة أو تكرار الزيارة إلى بيوت أخواتي المتزوجات .. لم تعد لي صديقات مقربات منذ فترة طويلة .. مع تقدم العمر وزواج الأغلبية وتغير الاهتمامات المشتركة تباعدن عني واحدة تلو الأخرى .. حاولت جاهدة التمسك بروابطنا وان أظل جزء من حياتهن ولكن في كل مرة يأتيني إحساس كريه بأنهن يتعمدن إقصائي والتباعد عني .. في نهاية الأمر حثتني طبيعتي الواضحة على طرح السؤال الصعب عن سرّ التغير في المعاملة .. فكرت في كل الاحتمالات إلا ما صرحّت به تلك التي كانت أقربهن إلى قلبي ... " منار ما تزعلي مني ولا من الباقيات .. وجودك في حياتنا بقى مشكلة .. إحنا الولادة والشغل بهدلونا وانتي لسة قاعدة سمحة ومهتمة بنفسك شديد .. بصراحة كل ما تجي لواحدة مننا بعد ما تمشي رجالنا بياكلوا لحمنا بيك .. شوفوا صاحبتكم قاعدة كيف جميلة ورشيقة وانتو بقيتوا زي البقر ومنكشات .. شوفوا صاحبتكم وصلت وين في شغلها وانتو محلك سر .. بعد كل زيارة منك بتحصل المقارنات وبصراحة ما بتكون في مصلحتنا وبعدين يا منار انتي عارفة زوغان عين الرجال .. إحنا واثقين فيك لكن ما واثقين في رجالنا بالذات انتي وظيفتك كبيرة ومرتبك عالي ... ودة في حد ذاته إغراء ما بيقدروا يقاوموه .. إحنا قلنا بس نزح البنزين من جنب النار .. لكن والله معزتك في مكانها ولو عاوزانا نجيك في أي وقت انتي تحدديهوا في بيتك كلنا تحت امرك" كانت كلماتها تصيبي بالغثيان والرغبة في تقيؤ كل سنوات الصداقة التي ربطت بيننا فقطعت علاقتي بكل من اسميتهن صديقات .. بدات ادفع ضريبة عدم زواجي .. وصدقوني كانت باهظة ومؤلمة ...وعلمت فيما بعد من أخرى قابلتها صدفة بان قرار إبعادي أخذته تلك التي كنت أظنها الأقرب ألي ّ وحدث ذلك بعد أن عبّر لها زوجها عن إعجابه بي كانسانة محترمة وجميلة ومثابرة في عملها .. فما كان منها إلا أن أعلنت الحرب على وجودي و أقنعت البقية بخطري عليهن .
الساعة الحادية عشرة ... لبست اجمل ثيابي ..تعطرت بأغلى عطوري وخرجت من غرفتي .. كان الصمت يعم المكان بعد خروج مجدي .. مررت بغرفة أمي ونظرت بحزن إلى وجهها النائم وآثار الدموع ما زالت محفورة على خديها المتغضنين .. مررت بالمطبخ وذكرّت الخادمة بمواعيد دواء أمي ووجبتها .. قدت سيارتي وخرجت .. هل تدرون إلى أين ؟؟ خرجت ابحث عن رجل بمسمى زوج كي يمنحني أهلية الدخول إلى بيوت صديقاتي ويرفع عني حظر الاقتراب من أزواجهن .. رجل بمسمى زوج يمنحني حق الانتماء إلى عالم النساء ... رجل يسحق عائق وجودي في طريق مجدي فيتزوج قبل أن تضيع فرصته .. لقد سئمت من نظرات الإشفاق في عيون الجميع .. وكرهت الأسئلة المحبوسة في عيون كل من يراني عن سبب عدم زواجي حتى الآن ... سئمت خوف الزوجات وتغامزهن لحظة وصولي إلى أي مجتمع ... وكلماتهن الممطوطة الجوفاء " والله يا منار الرجال ديل عميانين .. معقولة انتي بحلاوتك دي كلها ما شايفنك ؟؟ "... " والله يا منار انتي في نعيم .. كدة احسن ليك مرتاحة من قرف الرجال والأطفال .. عايشة حياتك زي ما أنتي عاوزة .. لا راجل يتحكم فيك ولا عيال يستنزفوا عمرك " من أعطاهم حق تحديد الأحسن والأسوأ في حياتي ؟؟ من اخبرهم أنى سعيدة بحياتي الخاوية من كل انتماء ؟؟ إذا سألوني رأيي سأقول لهم لا أمانع في الحصول على رجل يملاني قرفاً وحباً .. رجلاً يملاني ضجيجاً وحناناً .. أتوق للحصول على أطفال يحملون ملامحي وطباعي وامنحهم مخزون الحب المحبوس في أعماقي ولا أجد له متنفساً .. أعلنها صريحة ... أريد زوجاً .. اعرض لقب عانس للبيع ... وسأدفع كل ما املك لمن يشتريه ... فهل من مشتر ؟؟...
*********************************************************************

قصاصة سرية من دفتر يوميات فتاة مجنـــونـــة
_______________________
الخميس العاشر من سبتمبر الساعة الرابعة عصراً ... انه احب الأيام إلى قلبي ... انه يوم الزيارة .. وسوف تأتى شقيقتي لزيارتي ... إنها الوحيدة التي تزورني منذ أن أودعني أبى مستشفى الأمراض العقلية ... برغم أني لا أعاني أي مرض ... أنا لست مجنونة أتمتع بكامل قواي العقلية .. مشكلتي الوحيدة أنى احب طعم الدم .. هل من الجنون أن يحب الإنسان طعم الدم ؟؟ لا اعتقد خصوصاً إذا امتزج بالحليب .. وبرائحة أمي .. هل تذوقتم مزيج الحليب بالدم ورائحة أمي ؟؟ لا اعتقد .. هذا المزيج خاص بي أنا فقط .. لم يتذوقه غيري ... لانه يومها لم يكن هناك أحد غيري في المنزل .. فقط أنا وامي .. كنت في الثانية من عمري .. وما زلت ارضع ثدي أمي برغم احتجاجات أبى المتواصلة على إصراري رفض كل الأطعمة والمشروبات عدا حليب أمي .. يعتقد أنني كبرت على الرضاعة ... ههة انه غيور .. يغار من حب أمي لي لانه لا يمنحه مساحة كافية ترضي أنانيته البغيضة في الاستحواذ عليها .. أمي المسكينة الضئيلة الحجم ... وضئيلة العقل ايضاً .. كانت امرأة خائفة بصفة مستمرة .. فهي تخاف الناس والأصوات العالية .. تخاف الظلام والحشرات .. وتخاف أبي .. إنها تتنفس الخوف وتعيش به ... استشعرت خوفها بحسي الطفولي وحاولت أن أخرجها من عالمها المتحوصل حولنا أنا وأبي .. عندما بدأت أحبو اتجهت قوائمي مباشرة إلى الباب الخارجي في محاولة لاستكشاف ما يخيف أمي وراء جدران بيتنا الصغير .. لكنها لم تنحني الفرصة فقد انتزعتني بذعر هائل من العتبة الخارجية واصبح عالمي محصوراً في مسافة امتداد الحبل الذي يربط قدمي الصغيرة بقائمة السرير الخشبي القديم في غرفة نومها ..
لم اهتم بالقيد كثيراً فقد وجدت ما يشغلني .. مجموعة من الحشرات الصغيرة التي اعتادت زيارتي بانتظام .. وملاحقة خطواتي المقيدة عندما أحاول الهروب منها ومن لسعاتها المؤلمة .. وبرغم ذلك نشأت بيننا علاقة سرية قوية .. كنت أدرك خوف أمي منهم .. لكنهم أصدقائي ولن ادعها تتخلص منهم .. من سيؤنس وحدتي إذا فعلت .. فهي مشغولة بامور أخرى خارج نطاق فهمي وتتركني وحدي فترات طويلة .. لذلك اعتدت على إخفائهم تحتي حال سماعي خطوات أمي حتى لا تذهب بهم بعيدا .. لكن اعتقد انهم لا يرغبون في الاختفاء لانه بعد رحيلها يرفض معظمهم معاودة الحركة واللعب معي .. يظلون في سكون تام والقلة القليلة التي تتحرك تهرب مني بحركة مترنحة حالما ارفع جسدي الصغير منها ... كان انطواء أمي يزداد بمرور الأيام .. ورغبتها في التقوقع والعزلة تتنامى .. أصبحت ترفض الخروج أو استقبال الزوار برغم محاولات أبي المستميتة لجعلها تعيش حياة طبيعية .. وفي يوم غائم ومكفهر خرج أبي إلى عمله بعد أن اخبر أمي بأنه سيعود ومعه زوار أتوا من بلدته البعيدة .. أمرها بإعداد طعام لائق وتنظيف المنزل .. والاستحمام .. ههة نسيت إخباركم بان أمي خاصمت النظافة منذ أمد بعيد ... فقد أصبحت تخاف الماء ايضاً ...
بعد خروج آبي حملتني أمي كالمعتاد وأغلقت الباب من الداخل .. أرضعتني حتى غفوت كان نوماً مليئاً بالأحلام .. ولكن هل يحلم من هم في مثل عمري ؟؟ لا ادري لكنني كنت احلم بألوان جميلة ومساحات واسعة .. وقدم لا يربطها حبل ... صحوت على وقع الصمت الثقيل الغريب .. زحفت خارج فراشي الأرضي الذي صنعته أمه أمانا لي مخافة الوقوع من مكان عال .. وبخطوات متعثرة اتجهت إلى الخارج بحثاً عنها ... ووجدتها .. كانت نائمة على الأرض بوضعية غريبة .. عيناها مغمضتان بسكون ... يداها مضمومتان على صدرها ... ومن حولها انتشرت بقعة لون احمر داكن .. نفس اللون الذي أراه في أحلامي .. كنت جائعة زحفت بهدوء كيلا أوقظها من نومها .. دفعني فضولي لمعرفة ماهية هذا اللون الذي يملا كل مكان في جسد أمي الضئيل .. عندما أعياني البحث وغلبني الجوع أزحت يدها عن صدرها وبحثت عن مصدر غذائي حتى وجدته كان مليئاً بالحليب .. وملطخاً باللون الأحمر الداكن .. لم اهتم فأنا جائعة .. كان الطعم غريباً لكني جوعي كان أقوى فواصلت الرضاعة .. أغراني سكون أمي بارتشاف اكبر كمية ممكنة من المزيج الأبيض والأحمر .. بعد الشبع وكعادة الأطفال عدت إلى النوم في حضن أمي الذي أدهشتني برودته فقد اعتدته دافئاً ..
لم ادر كم مضى من الوقت ونحن نيام فقد استيقظت فزعة على صراخ آبي وهو ينتزعني من حضن أمي البارد ... وفجأة امتلا بيتنا الخالي دوماً بإعداد كبيرة من البشر .. كانوا يصدرون أصوات عالية ومزعجة .. وجدت نفسي أتنقل بين الأذرع الغريبة وأنا اصرخ مطالبة بان يعيدوني إلى حضن أمي ... بعد عدة سنوات أخبرتني زوجة آبي التي تبادلني كرهي لها بأنني طفلة مجنونة وأنني قد ورثت جنون أمي من دمها الذي رضعته مع الحليب بعد أن انتحرت بقطع معصميها خوفاً من مقابلة ضيوف آبي .. كانت الصفة التي ألصقتها بي رخصة استخدمتها بكل مهارة لفعل ما يحلو لي والهروب من العقاب القاسي عن أفعالي ضد زوجة آبي الشريرة وأطفالها القذرين المزعجين ... آهـ ... كم أتوق إلى هدوء بيت أمي وعزلتها عن العالم .. كم اكره زحام بيت أبي واكره الأصوات التي تملاه .. كم اكره الناس كلهم ... لقد عثرت زوجة آبي على دفتر يومياتي الذي أخبئه بكل حرص .. قرأته بكل وقاحة .. أعطته لأبي كي تدلل به على جنوني الوراثي .. فما كتب فيه لا يمكن أن يصدر عن طفلة في الثانية عشرة من عمرها .. وهو يظهر بوضوح اختلال عقلي وجنوني الخفي الذي قد ينفجر في أي لحظة .. خاف آبي من دفتري فمزقه إلى قطع صغيرة واحرقه .. لقد قتل آبي صديقي الوحيد الذي أودعته أسراري منذ أن تعلمت الكتابة والقراءة .. الوحيد الذي يسمعني ويفهمني .. الوحيد الذي لا ينعتني بالجنون ... لحظتها فقط أحسست بجوع إلى طعم الدم ...
في تلك الليلة تسللت إلى المطبخ واخترت سكينا كبيراً وحاداً .. جلست في الظلام ارقب آبي حتى خرج إلى الصلاة .. ودخلت إلى غرفة الشريرة التي تسببت في مقتل صديقي .. كانت ضربة واحدة أودعتها كل قوتي وحقدي لهذه المرأة التي احتل مكان أمي في قلب آبي .. لم تصرخ .. فقط فتحت عينان فزعتان للحظة ونظرت في عمق عيوني ثم أغمضتهما إلى الأبد .. ولم يكن طعم دمها كطعم دم أمي .. لا باس .. ربما أجد الطعم الذي ابحث عنه في دم أطفالها القذرين .. فهم مثل أمي يكرهون الماء ويقاطعون الاستحمام ... ههة .. أيقنت الآن انه ليس هناك طعم دم شبيه بدم أمي .. ولكن هناك مشهد شبيه .. عودة أبي من الصلاة وصراخه .. أمواج البشر التي توافدت إلى بيتنا .. أصواتهم المزعجة .. واخيراً ... هدؤ تام .. مثل هدؤ بيت أمي .. فقط من وقت لآخر يزعجونني بجلسات مع رجل وقور يتصنع الشجاعة في مواجهة نظراتي الثابتة .. ويطلب مني أن اخبره عن سبب إقدامي على قتل زوجة أبي وأطفالها ... انهم لا يفهمون .. لم أرد قتلهم .. فقط كنت ابحث عن طعم دم أمي ...
السـاعــة الرابعــة والنصــف نفس اليوم .. اقترب موعد الزيارة .. لقد وافقت على الاستحمام استعداداً لحضور أختي طلبت أن يمنحوني ورقة وقلماً حتى اكتب رسالة لأبى تحملها أختي عند مغادرتها .. الممرضة التي اقتنعت بشفائي خلال الفترة التي قضتها معي منذ سنوات .. أحضرت لي ورقة بيضاء وقلم رصاص .. لكن ما هذا ؟؟ سنة القلم مكسورة .. كيف يريدونني أن اكتب بسنة مكسورة ؟؟ ماذا يظنونني ؟؟ مجنونة ؟؟ طلبت من الممرضة بهدؤ أن تسن القلم حتى أستطيع الكتابة بخط جميل سوف اطلب من أبي أن يأتي لزيارتي .. فقد رفض أن يزورني منذ كم من الوقت ؟؟ لا ادري ربما عشر سنوات أو اكثر منذ آخر لقاء لنا .. أتت أختي .. أنها تشبهني كثيراً ... نفس الملامح والطول .. حتى وزني المتهاوي تشابهني فيه .. جلسنا .. تسامرنا سألتها عن آبي أخبرتني بأنه تزوج مرة أخرى وانجب طفلة وحيدة أعطاها اسمي .. كنا نضحك بحبور ... وفجأة .. شعرت بالجوع ... يا الهي احتاج إلى رضعتي .. عفواً اقصد وجبتي ... نظرت إلى أختي اللاهية عني بالنظر حولها .. كان العرق الموجود في عنقها النحيل ينبض بإغراء .. حاولت أن أقاوم بكل ما املك من إرادة .. اعذروني لم استطع .. فهويت بقلم الرصاص المسنون على ذلك النابض المغري ... آهـــــه .. أخيرا .. طعم دم شبيه بدم أمي ... نفس المذاق .. كم احب هذا المذاق .. كم بحثت عنه منذ طفولتي .. ما هذا الصوت المزعج ؟؟ إنها الممرضة .. لقد أصيبت بالجنون .. لابد انه تأثير مخالطة المرضى .. أنها تصرخ بهستريا .. إنها تحاول أن تخنقني ... إنها تضغط بكلتا يديها على عنقي النحيل ... لا استطيع التنفس ... طعم الدم يملا حلقي ... أمي .. أنا أراك .. أري يدك الممدودة إلى ... أشم رائحتك .. أخيرا سأعود إليك ونبقى سوياً .. ملحوظة : كتب في تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة بان الضحية طعنت نفسها بقلم حاد في الشريان الرئيسي في العنق وكان اندفاع الدم قوياُ حيث فشلت محاولات الممرضة لإنقاذها عن طريق الضغط عليه . كتب في تقرير الطبيب النفسي أن المذكورة أدخلت المصح منذ عشرة أعوام بعد أن قتلت زوجة أبيها وأطفالها .. وكانت هناك شكوك بأنها ربما شربت القليل من دمائهم .. .. هي شخصية ذهانية مصابة باكتئاب حاد وانفصام في الشخصية بصور لها وجود أخت تشبهها وتتكلم معها .. وتعاني من ميول انتحارية قوية وربما تلعب الوراثة دوراً فقد انتحرت والدتها بقطع شرايين يديها عندما كانت المذكورة طفلة في الثانية من
عمره
***********************************************************************ا
قصاصة سرية من دفتر يوميات امرأة مطلقة
______________________
الاثنين 17 يوليو الساعة 3:15 فجراً ... يا لها من ليلة جافاني فيها النوم بإصرار عنيد .. اشتكى السرير القديم من فرط حركاتي القلقة .. تجعّد الفراش تحتي بانبعاجات غريبة .. رافة به نهضت عنه ونظرت إلى وجه أختي النائمة بسلام حسدتها عليه .. حملت خطواتي بهدوء كي لا اوقظها واتجهت الى الطاولة الموضوعة قبالة الحائط في ركن الغرفة .. اخرجت دفتري الاحمر وقلمي الازرق وقررت ان ادون مذكراتي عن هذا اليوم الحزين بكل فرح .. يحق لي ان افرح برغم حزن الباقيين .. فاليوم حصلت على ورقة طلاقي بعد صراع مرير استمر سنتين كاملتين مع زوجي .. او ربما يجب ان اقول زوجي السابق ؟؟ عشت معه خمس سنوات لم اعد بعدها اطيق الحياة معه .. هذا الرجل القمئ ذو الانفاس النتنة .. منذ اول ليلة اكتشفت أي نوع من الرجال هو .. مخلوق محدود التفكير منعدم الطموح اعتمد على ميراثه الضخم من والده المتوفي حديثاً ليحل له كل مشاكله بما فيها شراء زوجة جميلة .. متعلمة ومن اسرة فقيرة .. فرح اهلي بالصفقة فقد كانت رابحة .. بالنسبة لهم على الاقل .. الخلاص من مسئولية فتاة اخرى على اعتاب الثلاثين .. والفوز بصهر غني قادر على تنفيذ كل الطلبات بسخاء .. انتزعوا موافقتي بعد ممارسة كل انواع الضغط من امي الملحاحة وابي المصرّ واخوتي المتاملين الطامحين في الحصول على جزء من ارباح الصفقة .. بالاضافة الى ضغط واقع بيتنا المتهالك وحاجتنا الماسة الى الدعم الموعود من الزوج الثري بصيانة المنزل .. ومن في المنزل ..كرهته منذ أول ليلة .. خصوصا بعد الاغتصاب العنيف الذي مارسه بكل قسوة متجاهلاً خوفي وتعبي وحاجتي إلى التعود على وجوده الثقيل .. ناهيك عن رغبتي في التقيؤ وانا اراقب اسلوبه الهمجي في ابتلاع كميات هائلة من الطعام .. اصراره على الكلام وفمه ممتلئ به .. التجشؤ بصوت كالرعد بعد كل قضمة تدخل جوفه البدين .. لقد بذلت أقصى ما املك من إرادة وقدرة على التحمل لإنجاح هذا الزواج .. وبعد ثلاث سنوات استنفذت كامل طاقتي خصوصاً بعد ان يئست من الحصول على طفل يملا حياتي ويلهيني عن زوجي الذي انحصر تفكيره طيلة وجوده في المنزل بين شيئين لا ثالث لهما .. تناول الطعام .. وسحبي إلى السرير كلما حلا له الامر .. في أي وقت وبدون مراعاة لمشاعري ورغباتي ... اذداد قبحاً ونتانة بعد ان اكد لنا الطبيب سلامتي من أي مانع يحول دون حملي .. وان زوجي العزيز يعاني خللاً يستحيل معه الانجاب ... بمرور الأيام تطور سوء المعاملة ليصبح عنف جسدي يحاول أن يعوض به عجزه في إنجاب وريث يثبت به رجولته المهدورة كل يوم على فراش الخادمة المثيرة التي أحضرها خصيصاً من بلدها بمواصفات خاصة كي يعيش معها أوهام السيد المتملك بعد أن اصبح جسدي لوح خشبي في مواجهة رغباته المهينة اللامتناهية .. طلبت الطلاق اثر ضربه لي بوحشية بعد نقاش بسيط بيننا .. رفض هو .. ورفض اهلي بشدة اكثر منه مع اختلاف الدوافع ... رفضه كان محاولة يائسة لاذلالي عن طريق رهن حريتي في سجنه الفخم .. اما رفض اسرتي المتوقع فقد كان مخافة انقطاع الدعم المادي الذي اشترى به زوجي رضاهم وسكوتهم عن ما يحدث لي ...
في أول فرصة للهرب جمعت اغراضي ووضعت اهلي امام الامر الواقع .. لقد عدت اليهم كما خرجت .. ولن ارجع إلى زوجي الا جثة هامدة .. لم يستطيعوا الوقوف امام عنادي واصراري فسكتوا على امل أن تهدا النفوس واعود إلى صوابي ... إلى الدجاجة التي تبيض لهم ذهباً ... لم يساندوني فلجات إلى المحكمة واوكلت قضيتي إلى احدى صديقاتي وهي محامية اشتهرت بكسب قضايا الطلاق الصعبة .. واخيرا اتاني عمي الذي يقاربني في العمر وبعد جلسة مصارحة طويلة قصصت له فيها أي نوع من الحياة كنت اعيش .. قرر مساندتي في طلب الطلاق ... بل اقنع ابي بالموافقة على أن اعمل حتى اشغل وقتي واساعد في مصاريف المنزل .. وبعدما اتت الموافقة حصل لي على عمل في احدى شركات التامين كسكرتيرة لصديقه مدير الشركة ... حصرت علاقاتي بالجميع .. خصوصا الزملاء الرجال كنت حريصة على اخفاء مشاكلي الزوجية وجعلت الجميع يعتقد انيي اعيش حياة طبيعية ...كما قال المرحوم احمد زكي في فيلمه الذي يحمل نفس الاسم ( انا لا اكذب ولكني اتجمل ) .. وبما انني في نظر الجميع متزوجة فقد احترم البعض رغبتي في التباعد وعدم الاختلاط .. ولكن افتضح سر خلافي مع زوجي عندما ايقن بخسارته للقضية فاتى الى مكان عملي .. وكان مشهداً مجانياً مغرياً للعيون الفضولية توزعت فيه النظرات الشامتة بيني وبين زوجي بسبابه البذئ الذي ختمه بتهديد صريح بتعليقي بين السماء والارض حتى اموت ..
بعدها تغيرت طريقة المعاملة .. واسلوب التعامل .. كثرت التلميحات المتوارية .. الكلمات المبطنة بمعان اخرى .. اصبحت الزميلات اكثر حذراً واقل وداً ... كان هذا قبل ان استحق لقب مطلقة .. يا ترى كيف سيكون الحال بعد الطلاق ؟؟ لا استطيع ترك وظيفتي فانا احتاج الى الراتب لتوفير احتياجاتي .. اضافة الى المساهمة في مصروف البيت ومحاولة تعويض الاسرة عن المبلغ الذي اعتاد زوجي السابق دفعه اليهم كل شهر أحس بصداع قاتل ... تجازوت الساعة الرابعة والنصف صباحاً اصبحت عيناي ثقيلتان وتنبعث منهما حرارة قاتلة ودموع لم اعد استطيع التحكم بها .. لقد طلبت اجازة لمدة اسبوع حتى استعد لمواجهة الحياة بعد ان تنازلت عن لقب زوجة وسعيت وراء لقب المطلقة بمحض اختياري ... ساتوقف الان عن الكتابة .. غداً يوم آخر ... الخميس 20 يوليو .. الساعة الخامسة صباحاً ... اشتقت إلى دفتر يومياتي .. كانت الأيام الماضية عصيبة ومرهقة جسدياً ونفسياً ولم اجد الوقت ولا الطاقة للكتابة .. عدد كبير من الناس توافدوا ليقدموا واجب المواساة في طلاقي .. وتوالت الدعوات باصلاح البين مع زوجي وانا ادعو الله بكل حرارة و بعد كل دعوة " اللهم لا تستجب .. " وسط كل هذا كنت احاول التاقلم مع ما يدور حولي واستيعاب قدرة البشر على تغيير مواقفهم غضب ابي .. حزن امي .. وارتباك اخوتي .. بالأمس أحسست باني اختنق فقررت الخروج لزيارة رقية صديقتي منذ الطفولة .. بدا التحفز على وجوه الجميع عندما اعلنت نيتي في الخروج .. اتتني امي بنظرات خائفة " سهيلة ؟ انتي صحي قلتي ماشة لرقية ؟؟ اجبتها بتحدى ..ايوة يا امي انا متضايقة وعاوزة اطلع شوية اشم هوا غير هوا البيت الملان نكد دة .. ومحتاجة اتكلم مع زول قريب لي .. انتي عارفة اني ما برتاح لزول قدر رقية " نظرت الي بغرابة وتمتمت بكلمات لم يسعني سماعها " في شنو يا امي ؟؟ مالم بتتكلمي تحت تحت ؟؟ عندك اعتراض اني امشي لرقية ولا شنو ؟؟ نظرت إلى طرف ثوبها وقامت بانتزاع خيط وهمي تشاغلت به عن النظر إلى وجهي ثم ردت بخفوت " يا سهيلة يا بتي انتي هسة وضعك اختلف .. يعني ما مفروض تدخلي وتطلعي زي زمان .. لسان الناس ما بيرحم وانتي خلاص بقيتي مطلقة .. كانت الكلمة كرصاصة صوبت إلى راسي بعد حكم اعدام سريع بلا قاض ولا محلفين ... وكان الدفاع انا .. " امي ؟؟ دة كلامك ولا كلام ابوي ؟؟ شنو يعني مطلقة ؟؟ يعني عشان اتطلقت خلاص بقيت ناقصة .. محتاجة وصاية ومراقبة ؟؟ .. انا لا اول واحدة ولا آخر واحدة تتطلق .. المفروض عشان الشئ دة حصل احبس نفسي وما اطلع ؟؟ يكون في علمكم انا اجازتي حتخلص يوم الاتنين ونازلة شغلي عادي .. موضوع الطلاق دة خلاص انسوه " ضربت امي صدرها بيدها للدلالة على عدم تقبلها لكلامي " فضيحتنا .. شغل شنو العاوزة تمشيه ؟؟ انتي مجنونة ؟؟ عاوزة الناس تاكل وشنا ؟؟ كيف تشتغلي وانتي مطلقة ؟؟.. اجبتها بتحدي " ولو ما اشتغلت منو حيصرف عليّ ؟؟ وانتو حتتملوني لو ما ساهمت في مصاريف البيت ؟؟ يا امي خليكم ناس واقعيين وبطلوا الكلام الفارغ دة .. انتو محتاجين لمرتبي اكتر مني واسكتها ردي على الفور .. وهمت بالخروج ثم التفتت مرة اخرى " طيب يا سهيلة موضوع الشغل دة لمن نشاور ابوكي فيه لكن كدي هسة ختي الرحمن في قلبك واقعدي .. ما تقولي طالعة لانو ابوك هايج شديد وانا ما عاوزاكم تتشاكلوا .. بكرة الصباح لمن يطلع امشي لرقية وارجعي قبل ما هو يجي ..
وهكذا يا دفتري الحبيب حدد طلاقي حقي في الخروج ووضعني تحت الإقامة الجبرية ... الجمعة 21 يوليو الساعة الثانية ظهراً ... ذهبت اليوم إلى منزل رقية برغم رفض آبي وتعنت آخي .. لقد نسينا أن اليوم الجمعة اصبح تشابه الأيام مملاً .. ومخيفاً .. لكنني اصريت على حقي في الخروج ووقفت امام وجه آبي العابس واخي المكفهر وهما ينظران الي بتوتر " ابوي انا ما قادرة افهم .. يعني مفروض احبس نفسي في البيت عشان اتطلقت ؟؟ انا ما باعمل حاجة غلط .. وما عندي نية اسجن روحي بسبب طلاقي .. لو أي واحدة اتطلقت اهلها حبسوها كان كل بيت في السودان بقى سجن .. صمت آبي وتكلم الشقيق الذي اكبره بستة اعوام " سهيلة .. لازم تعرفي انو طلاقك غيّر حاجات كتيرة .. بقى وضعك حساس ولازم تعملي حسابك على أي حركة وتصرف .. وبعدين تعالي شنو التوب الانتي لابساه دة ؟؟ مبهرج زيادة عن اللزوم .. والجيبة في نص ساقك وبلوزتك نص كم .. لازم تغيري طريقة لبسك وتاني ما تختي مكياج في وشك وانتي طالعة .. انتي خلاص بقيتي مطلقة ... الاثنين 24 يوليو الساعة الخامسة عصراً ... آهـ ... كم أنا متعبة .. تعاني روحي من الارهاق والتشتت .. انتهى اسبوع الاجازة وعدت إلى عملي اليوم .. لحظة وصولي المكتب رايت الغمزات تتطاير من عين لاخرى .. والهمسات تتناثر باستتار مفضوح .. تجاهلت الجميع واتجهت إلى مكتبي اغلقت بابي وغرقت في حزني وتوجسي مما هو آت ... عند منتصف النهار كان خبر عودتي قد انتشر في الشركة فتوافد الزملاء والزميلات إلى مكتبي بحجج واهية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب .. وتباينت النظرات بين متعاطفة وشامتة ... وطامعة ... آخر النهار وعند وقوفي أمام بوابة الشركة بانتظار بص الترحيل الجماعي .. اقترب مني اكثر من زميل عارضاً خدمة توصيلي .. هذه الخدمة التي لم تكن متوفرة طيلة الفترة السابقة عندما كنت متزوجة .. فلماذا الآن ؟؟ بالتاكيد لانني مطلقة ... يا لها من كلمة ..
الأحد 30 يوليو .. اصبح الوضع في الشركة لا يطاق .. باتت عداوة الزميلات واضحة ومفضوحة .. المتزوجات منهن والعازبات .. تكتل الجميع ضدي لممارسة سياسة العزل والاقصاء بلا رحمة .. غابت التحايا الودودة .. انتهت جلسات الشاي والفطور المشتركة .. وبدا التحفز ياخذ منحى جديداً باطلاق الشائعات عن بحثي لرجل يلعب دور البديل للزوج .. شريطة ان لا يكون زوجاً .. هل فهمتم قصدي ؟؟ ما اقبح عالم النساء .. وما اشد كيد النساء للنساء .. وما اقبح عالم الرجال .. وما اشد طمعهم ودناءة نفوسهم ... مديري صديق عمي الذي ربطتني به علاقة ود واحترام ... احسست به اليوم يقف وراء ظهري وانا أعيد ترتيب الملفات في الادراج .. كاد يلتصق بي .. سمعت انفاسه اللاهثة في اذني وجاءني صوته كالفحيح وهو يسالني " سهيلة .. محتاجة مساعدة ؟؟ " منذ متى اصبح المدير يساعد السكرتيرة في ترتيب الملفات ؟؟ اجبت بلا وانسحبت بهدوء وحزم .. انزويت وراء مكتبي احتمي به من محاولة التقرب المثيرة للاشمئزاز .. واخفي وراءه دهشتي من تلاشي الاحترام الذي كان يسود بيننا .. واتساءل اين ذهب ؟؟ هل انتهى بانتهاء لقبي كزوجة ؟؟ السبت 5 أغسطس ... اليوم قدمت استقالتي من عملي .. لقد تعرضت لاقبح موقف قد تمر به امرأة محترمة .. تعرضت لمحاولة انتهاك كرامتي وتدنيس اعتزازي بنفسي .. برغم محاولاتي المستميتة للاحتفاظ بوظيفتي وتجاهل تصرفات مديري والتجاوز عن اسلوبه الذي بدأ تتخذ طابع الوقاحة .. الا انه لم يرتدع .. اليوم حضر مبكراً على غير العادة وطلب مني موافاته .. بنظرة غريبة أخافتني امرني بالجلوس في الكرسي المواجه له .. فتح درج مكتبه واخرج كيس صغير انيق .. وضعه امامي وطلب مني فتحه .. بتردد تناولت الكيس وفتحته فاصطدمت يدي بصندوق طويل من المخمل الناعم ويوحي مظهره بما يحتويه .. مادت الأرض تحت اقدامي .. أغمضت عيني وأنا أدعو ربي في سري أن تخطئ توقعاتي .. وكان واضحاً بأنه هو من اخطأ في فهم ردة فعلي .. نهض بسرعة من خلف مكتبه وتقدم نحوي بخطوات مترنحة وجلس في الكرسي المقابل " سهيلة دي هدية بسيطة اعبر بيها عن إعجابي الشديد بيك ... أتمنى تقبليها عشان تبقى عربون محبة بينا .. وانخفضت طبقة صوته حتى صار اقرب للهمس وبلا انذار قبض على يدي المرتجفة وبدا يسحقها تحت ضغط يده ... حاولت ان اسحبها لكنه امسك بها بقوة أخافتني وظهر الفزع في عيني ... " ما تخافي يا سهيلة انا انسان رقيق ومليان حنان وما لاقي الاديه ليه .. يمكن تقولي في سرك ما اديه لزوجتي .. حاقول ليك من زمان هي بقت في وادي وانا في وادي تاني .. مشغولة بالبيت والعيال وما حاسة بي ولا باحتياجاتي ..ما قادرة تديني الانا عاوزه ... ازداد الدوار في رأسي ويده تواصل سحق يدي بقوة وعنف .. " انا حاسي بيك يا سهيلة .. عارف العذاب الانتي عشتيه مع راجلك .. وعاوز اعوضك عنه بس انتي اديني الفرصة أكون قريب ليك وتاكدي انك ما حتندمي " عندما استطعت النطق اخيراً جعله سؤالي المفاجئ يطلق سراح يدي بسرعة " يعني انت عاوز تتزوجني ؟؟ " قفز من الكرسي كمن لدغته حية " اتزوجك ؟؟ هسة الجاب سيرة العرس منو ؟؟ فزعت من المعنى المبطن لكلماته وحاولت تكذيب ظنوني " امال انت قصدك شنو ؟؟ "تاني رده كريهاً تفوح منه رائحة العفن .. " سهيلة انتي بتستهبلي ولا شنو ؟؟ انا ما عندي طريقة اعرس مرة تانية .. لكن ممكن نكون اصحاب ونريح بعض .. كدت اتقيا في وجهه الملئ بالرغبة السافرة وهو يواصل " انا عندي شقة مفروشة ما في أي زول عارفها ممكن نتقابل فيها .. وتاكدي اني حاخليك الكل في الكل هنا في الشركة .. حازيد مرتبك الضعف ولو عاوزة عربية بانزلها ليك جديدة من الورقة .. لكن شرطي الوحيد انو علاقتنا دي تفضل سر وما في أي زول يعرف بيها .. نهضت بقرف وسالته .. يعني انت عاوز ليك صاحبة مش كدة ؟؟ آسفة انا ما باصلح للدور دة فتش في مكان تاني .. كان رده مليئا بالسخرية " انتي عاوزة تعملي لي فيها خضرة الشريفة ؟؟ انتي ناسية انك مطلقة ؟؟ يوم آخر لا اعلم تاريخه .. لقد توقفت عن حساب الأيام والساعات .. فقد اصبحت كل اللحظات متشابهة .. تحمل طعم الالم ولون الغضب صار التمرد يملا اعماقي ضد الجميع بسبب معاملتهم القاسية لي وكانني ارتكبت جرماً لا يغتفر .. واصبحت محاصرة من جميع الجهات بالنظرات المنتقدة لكل ما اقول وافعل وارتدي .. حصار بالكلمات اللاذعة من امي وابي واخي .. حتى اختي التي كنت اعطيها كل ما تريد .. باتت الآن تعاملني كانني عار يحلق فوق راسها وتحاول اخفاؤه من العيون .. لقد طلبت مني اليوم وبكل صفاقة أن اختفي ساعة حضور اهل خطيبها حتى لا يتذكروا أن لديها اخت مطلقة ... يبدو لي انهم قريباً سوف يمنعون عني الهواء الذي اتنفسه بحجة أني مطلقة ... كانت الافكار تدور في راسي وانا اركض بتعب خلف ابن اختي الصغير ذو الستة اعوام في محاولة يائسة لتبديل ملابسه المتسخة استعدادا لوصول الضيوف .. وعندما امسكته اخيراً كان يهز راسه بعنف يمينا ويسارا تفادياً لدخول القميص في راسه الصغير وهو يصيح " يا خالتو ما تلبسيني .. ما عاوزك تلبسيني " كنت اجاريه في حركاته واحاول اقناعه بارتداء القميص .. " ليه يا حمودي ما عاوزني البسك ؟؟ مش انا خالتو حبيبتك ؟؟ تلعثم وهو يبحث عن سبب مقنع .. عشان .. عشان ... عشان .. واخيراً تهللت اساريره بعد ان عثر على الجواب المناسب
" عشان انتي مطلقة "
****************************************************************************
قصاصة سرية من دفتر يوميات بائعة هوى
____________________
الجمعة 6 اكتوبر .. الساعة العاشرة والنصف صباحاً .. ما زلت أجاهد عضلاتي المتعبة كي تلين و أستطيع مغادرة السرير .. كل جزء في جسدي يئن الماً .. كل عصب داخلي مشدود ومتشنج ... كأن عجلات شاحنة ضخمة مرت فوقي مراراً وتكراراً ... ألم تكن شاحنة ؟؟ بلى فزبون ألامس الستيني كان بجسده البدين وحركاته العنيفة أشبه بشاحنة ثقيلة متهالكة الإطارات .. معطوبة الفرامل .. ويتسرب زيتها بلا انقطاع ... ألا لعن الله من اخترع حبوب الفياجرا .. فقد جعلت من النعاج ثيراناُ هائجة تصعب السيطرة عليها ... وجعلتنا نحن كالفوطة التي توضع في دورة مياه عامة .. متعددة الاستخدامات .. ومليئة بالقذارة ... في السابق كان الزبائن ذوو الاعمار الكبيرة والجيوب المنتفخة سلعة مرغوبة لنا نحن معشر بائعات الهوى .. فهم سريعوا الإرضاء ويسهل التعامل معهم .. وفي بعض الأحيان كانت الجلسة تقتصر على كثير من الكلام .. وقليل من الأفعال .. وعندما أكون مع أي منهم أحس وكأنني طبيب نفسي يتقاضى أجرا باهظاً كي يستمع إلى مشاكل تافهة ليس مطلوباً منه حلها .. عليه فقط أن يستمع بانتباه .. ويبدي التعاطف المطلوب .. أما الآن فقد تساوى الكهول مع الشباب وهم اصعب فئات الزبائن إرضاء .. فهولاء يأتون مشبعين بثقافة الأفلام والمجلات الغربية .. امتلا خيالهم بنظريات صعبة التطبيق .. بعضهم يأتي غريراً وبه مسحة حياء سرعان ما تختفي .. وبعضهم يأتي منتفخاً كالديك الرومي لينهار غروره مع سقوط ملابسي ... ويصبح كالدمية في يدي أحركها كيفما أشاء ...
" ابتسام يا بتي الساعة قربت على حداشر ..مالك الليلة نايمة للوقت دة ؟؟ قومي الدنيا جمعة " أتاني صوت أمي الحنونة الغافلة عن مهنتي السرية ... فهي شانها شان جميع الأمهات تعتبرني اطهر مخلوق على وجه الأرض ... أمي التي رفضت الزواج بعد وفاة أبي فجأة .. دفنت شبابها الغض في عيون أبناءها الثلاثة احمد الكبير الذي سافر إلي ليبيا منذ سنين وانقطعت أخباره والمساعدة الضئيلة التي كان يرسلها .. أعيانا السؤال عنه .. بلا جدوى .. فقد اختفى ولا ندري برغبته واختياره أم لاسباب قاهرة لا نعلمها .. أنا في الوسط ثم آخر العنقود أمير المدلل الذي تخرج من الجامعة و أدمن الجلوس على ناصية الشارع بعد أن أعياه البحث عن عمل يتناسب مع مؤهله الغريب " فنون جميلة " .. كأنه لم يدرك بان الجمال لم يعد يقطن مدينة الفنون .. وان تخصصه لن يؤهله لوظيفة محترمة تدر دخلاً نعتاش منه .. تذكرت إصراره الحالم على دخول الكلية لصقل موهبة الرسم اعتقاداً منه بأنه سيكون دافنشي عصره .. هدر سنوات من عمره ليجلس في نهايتها عاطلاً على حجر أمام دكان عم ياسين يدخن السجائر التي يبتاعها بعفتي المسلوبة يومياً على فراش الغرباء كل ليلة عندما أعود بحسد منهك وروح ميتة .. اجلس لادون الأحداث التي مرت بي خلال اليوم .. ولكن قبل أن يخط قلمي حرفاً واحداً في الصفحة الجديدة .. أتلذذ بتعذيب نفسي والعودة إلى صفحات قديمة بتاريخ يعود إلى سنوات مضت ... تاريخ بداية السقوط ...
أقرا بسخرية كيف كنت اصف مشاعري تجاه أول حب في حياتي .. كنت في الصف الثالث الثانوي استعد بهمة للجلوس لامتحان الشهادة السودانية .. كانت قد مرت خمس سنوات على وفاة أبي صارعت فيها أمي الحياة لنعيش بكرامة .. عملت في كل حرفة تتقنها فباعت الكسرة والفسيخ .. خاطت الثياب .. هذا عدا عن الشغل الموسمي .. عواسة الحلو مر قبل رمضان .. وبيع الخبيز قبل العيد .. تجهيز عطور العرائس .. بعملها الشاق لم نحتاج لمعونة أحد .. لكننا أيضا عشنا على الكفاف .. أصرّت أمي على دخولي دروس خصوصية مسائية في مدرستي القريبة من المنزل .. كانت أسعارها زهيدة لان المدرسين كانوا طلاب جامعات وليسوا أساتذة محترفين ... اعتقد أني قد وقعت في غرام أمين منذ أول درس رياضيات .. كان طويلاً نحيلاً .. له عيون بنية وشعر ناعم يلتف في دوائر جميلة تقترب من حدود النظارة الطبية ذات الإطار الأسود الرفيع .. كان طالباً في السنة الأخيرة بكلية الهندسة ومن أسرة ميسورة الحال .. تطوع كأقرانه لمساعدة الطلاب غير المقتدرين بإعطائهم الدروس بأسعار رمزية .. تطورت علاقتنا بصورة مخيفة من نظرات مختلسة وابتسامات متبادلة ... إلى قصاصات ورق صغيرة مدسوسة بين الدفاتر .. وقبل أن نفقد حجة اللقاء بانتهاء الامتحانات كنت قد التقيته عدة مرات بعد انتهاء الدرس في الشوارع المنعزلة المحيطة بالمدرسة .. تغلغل داخل كياني كالحمي وقضى على كل مقاومة داخل عقلي وقلبي .. انقطعت عن رؤيته أثناء فترة الامتحانات وبقيت بيننا الاتصالات الهاتفية اليومية التي كنت أتحايل على أمي المسكينة كي احصل منها على أجرتها واجريها من محل الهاتف القريب من المدرسة ... عند انتهاء آخر امتحان وجدته ينتظرني أمام بوابة المدرسة.. كان شوقنا اكبر من كل محاولات التعقّل وانتهى بنا الأمر في شقة صديق له .. وكانت لحظة انتصاره وسقوطي ... الآن وبعد أن خبرت الحياة استوعبت معنى مقولة قرأتها في مكان ما مفادها أن ( المرأة تعطي الجنس لتحصل على الحب .. والرجل يعطي الحب ليحصل على الجنس ) وما أوسع الفرق بين العطاءين ..
بعدها أدركت أن اصعب لحظات السقوط هي اللحظة الأولى بعدها تنخر سوسة التعود في ضمير الإنسان حتى يصبح الخطأ عادة لا يتحرك لها عصب ولا يهتز لها طرف ... أصبحت لقاءاتي مع أمين منظمة وبمواعيد متفق عليها .. لم اعدم حيلة تخرجني من المنزل في أي وقت أرغبه .. زيارة صديقة .. البحث عن عمل .. وامي المنهكة من العمل المتواصل والمتبلدة من الثقة الزائدة تعتبرني الملاك الذي لا يخطئ فأعطتني حرية لا حدود لها .. تخرج أمين من الجامعة بتقدير جيد جداً أما نتيجتي فقد كانت متواضعة ولا تؤهلني لدخول كلية يعتد بها .. لذلك قررت البحث عن عمل حتى أساعد أمي في توفير لقمة العيش .. خصوصاً مع استسلام أمير الاختياري لعطالته الإجبارية.. وحاجتنا الماسة لزيادة مصدر دخل الأسرة ...حصلت على وظيفة مدرّسة في مدرسة ابتدائية مما أعطاني حرية اكبر في الخروج ومقابلة أمين ... اصبح تواصلنا الجسدي امراً مسلماً به في كل لقاء .. وبدا وعده بالزواج يتباعد مع تزايد اللقاءات .. ثم أتت مرحلة التهرب من لقائي إلا بعد إلحاح شديد مني .. وأنا الغبية اصدق تحججه بالعمل الجديد الذي حصل عليه في إحدى الشركات الكبيرة ... وفي يوم طلب هو لقائي فطرت إليه فرحاً وشوقاً .. فوجئت بوجود آخر معه .. عرفني به .. كان صديقه صاحب الشقة .. جلسنا معا قليلاً يلفنا الصمت والارتباك .. ثم اعتذر أمين بمواعيد مسبقة وخرج مسرعاً ... تركني مذهولة وأنا استمع لشرح صديقه عن ضرورة تفهّم الظروف .. وانه سيكون بديلا جيداً لامين .. أصبت بالشلل وأنا أحاول استيعاب ما يحدث .. لقد تنازل أمين عني لصديقه .. كانيي حقيبة أو حذاء .. ولم يكلف نفسه عناء الشرح أو الاعتذار .. ترك الأمر لمن ستؤول إليه الملكية الجديدة كي يجد الأعذار ويوضح الأسباب .. وفي لحظة الشلل الذي اعتراني كنت قد أصبحت جسداً مستباحاً للصديق المتلهف .. يبدو أن الحب في قلب أمين قد مات في اللحظة التي منحته فيها نفسي عربوناً ادلل به عن حبي له...
بعدها لم يعد لدي ما افقده .. ألم أخبركم أن لحظة السقوط الأولى هي الأصعب ؟؟ وبعدها تتساوى الأشياء ... امتهنت بيع جسدي لمن يدفع ثمنه .. لقد منحته مجاناً لامين .. وحان الوقت لاستفيد منه .. كانت حرفة سرية .. ومجزية .. وما اكثر الجائعين للحرام في بلدنا ... أصبحت صورة مجسدة لدكتور جيكل ومستر هايد .. في الصباح انا المدرسة الرزينة الهادئة التي تعلّم الأطفال القراءة والكتابة ,, وتغرس فيهم الأدب والأخلاق ... يا لسخرية القدر .. كيف يقولون أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟؟ أنا افتقد لكل هذه القيم .. لكني اغرسها كل صباح في عقول تلاميذي الصغار ... كانت حجة إعطائي دروس خصوصية للتلاميذ المقتدرين في منازلهم مقنعة أمام الجميع بما فيهم أمي وأخي لتغطية خروجي اليومي وعودتي المتأخرة احياناً .. استقل المواصلات العامة من الشارع أمام الجميع .. فتاة محترمة كادحة تساعد أمها بالعمل الإضافي .. ارتدي ملابس محتشمة واضع الطرحة على رأسي .. احتضن كتب ودفاتر .. نفس خائفة .. وروح ميتة.. انزل في مكان بعيد لا يعرفني فيه أحد ...وبنفس هيئتي اقف في اقرب رصيف بانتظار الزبائن ... اختارهم حسب نوع السيارة وشكلها .. وعندما احدد هدفي القادم من بعيد أظل ساكنة شأني شان بقية المبعثرين على طول الشارع بانتظار وسيلة مواصلات ..
ظللت فترة طويلة أسال نفسي لماذا تتخطى السيارات بقية الناس وتأتي لتقف أمامي ؟؟ فأنا لا أبدو مختلفة عنهم ؟؟!! وفي يوم من الأيام تجرأت وسالت أحد زبائني الذي التقيته صدفة وبنفس الطريقة المعتادة .. عادل السوداني الذي يحمل جواز أمريكي .. في بداية الأربعين ترك زوجته الأمريكية هناك وأتى لقضاء إجازة وسط أهله بعد غياب دام خمسة عشر عاماً متواصلة قضاها في جمع الدولارات وتعلم فنون ممارسة الحب .. كان شبقاً وبداخله جوع غريب لا يشبع .. اعتاد حيل الغرب فارهقني .. وعندما اعتدت عليه أعطاني متعة لم أتخيل وجودها .. وكنت أحيانا أحس بالذنب لأنني أتقاضى أجرا مقابل ما يمنحني إياه ..الفرق بينه وبين الآخرين انه كان يتحدث .. نعم يتحدث معي كانسانة بغض النظر عن مهنتي التي أمارسها .. غالبية الرجال لا يكون تبادل الحديث من أولوياتهم بقدر تبادل اللمسات .. أما عادل ومنذ أول لقاء تكلم قبل أن يلمس .. وعندما أصّر على تكرار اللقاء لم أمانع لثلاثة أسباب .. سخاؤه .. حديثه .. وبراعته ... بعد اللقاء الثالث سألته ما السبب الذي دفعه لإيقاف سيارته لي أنا بالتحديد دوناً عن بقية الفتيات الأخريات ؟؟ كيف عرف من أكون ؟؟ أجابني بضحكة مجلجلة وصراحة مؤلمة " يا ابتسام ما تزعلي مني لكن انتوا بتتعرفوا بالإحساس .. عندكم جو معين بيحيط بيكم .. زي الكانوا جسمكم بيفرز ريحة خاصة إحنا بس البنقدر نلقطها .. نظراتكم بتكون مختلفة عن باقي البنات .. حتى طريقة وقفتكم .. سمعتي عن حاجة اسمها لغة الجسد ؟؟ اهو انتو بتملكوا اللغة دي .. انتو حتى لو الواحدة منكم لابسة خيمة مغطياها من رأسها لرجليها لكن ريحتها وكل حتة من جسمها بتقول أنا كدة .. تعالوا لي " وكان تفسيره مقنعاً .. قبل عودته إلى أمريكا بيوم .. أصر على قضاء طيلة اليوم معي .. كانت حصيلتي في نهايته ثلاثمائة دولار ومشية غريبة عللتها للجميع بتعثري والتواء قدمي مما جعل المشي عصياً .. عندما هم بالمغادرة ذلك اليوم احتواني بين ذراعيه وطبع قبلة عميقة على شفتي وهمس في أذني " تعرفي يا ابتسام لو ما كنتي كدة انا كنت عرستك .. انتي اول بت سودانية تديني المتعة دي " وهمست في أذنه بسخرية " وتعرف يا عادل أنا لو ما كنت كدة ما كنت قابلتني ..ولا عرفتني ولا اديتك أي إحساس "
السبت 7 أكتوبر .. الخامسة مساء ... اليوم اجري استعدادات خاصة للخروج .. لدى أحد زبائني المتخمين بالمال حفل صغير مع ضيوف أجانب في منزله ويود أن يقدم لهم صورة مختلفة عن المرأة السودانية التي يسمعون عنها او يرونها في القنوات وهي ترتدي الريش والتمائم كأنها خرجت لتوها من إحدى الغابات .. أتت أمي الحبيبة وهي تحمل كوب الشاي بالحليب " بسمة اشربي شايك قبل ما تمرقي عشان رأسك ما يوجعك .. قلتي الليلة عندك طلبة كتار وحتتاخري " كان حنانها يمزقني .. وغفلتها تعذبني ... " يا بسمة أمير أخوك قال محتاج مبلغ كدة .. طالع مع أصحابه يوم الخميس وما عاوز يمشي أيده فاضية " .. نظرت إلى أمي بطرف خفي .. تدليلها الزائد لشقيقي الأصغر كان عاملاً فعالاً في استمرار عطالته .. وتلبيتها لجميع طلباته خلقت منه انساناً انانياً لا مبالياً واعتماده على توّفر المال كلما احتاج له قتل داخله روح الطموح والرغبة في العمل .. " حاضر يا أمي .. عاوز كم ؟؟ ردت أمي بخفوت " قال عاوز تلاتين الف " ورددت عليها بانزعاج " تلاتين الف عشان يطلع مع اصحابه ؟؟ ليه اصلهم ماشيين وين ؟؟ وازداد خفوت صوت أمي " والله يا بتي ما عارفة لكن هو قال محرج منهم كل مرة يدفعوا ليه .. والمرة دي هو عاوز يدفع .. أنا ما عاوزة اتقل عليك عارفاك شقيانة عشان تساعديني لكن انا والله ما عندي .. لو عندي ما كنت جيتك " وكي لا أرى النظرة المنكسرة في عينيها ولا نبرة الاستعطاف في صوتها أومأت موافقة " حاضر يا أمي قبل الخميس باديه القروش " لا يا بسمة انتي اديني ليها وانا باديها ليه باقي اخوك بيخجل يشيل منك انتي " وابتسمت وأنا أفكر... ما اجمل خجله ؟؟!!
الجمعة 13 أكتوبر ... هل تؤمنون بالخرافات ؟؟ .. يقال انه لو صادف يوم الجمعة تاريخ الثالث عشر فهذا نذير شؤم .. فيما يخصني كان يوم الشؤم بالأمس .. واليوم مجرد استمرار له .. بالأمس خرجت عن ترتيب مسبق خلافاً لبقية الأيام التي اختار فيها زبائني بعشوائية ...أحد زبائن الأسبوع الماضي شاب في مقتبل العشرينات التقيته مرة أخرى أثناء وقفتي المعتادة واخبرني انه أتى خصيصاً للبحث عني .. يبدوا أن الدروس التي لقنني اياها عادل قد حسنت كثيراً من قدرتي في توفير المتعة والإشباع لهذه الأجساد الجائعة .. في نهاية اللقاء اخبرني برغبته في لقاء آخر يوم الخميس حيث يجتمع هو وأصدقاؤه في منزل أحدهم لاقامة حفل صغير بلا مناسبة محددة .. وسوف يجلب كل منهم فتاته .. وطلب أن أرافقه ... كان منزلاً جميلاً في أحد الأحياء الراقية .. غياب الأسرة خارج البلاد في إجازة أعطى ابنهم الحرية في استقبال أصدقاؤه ... عندما دخلت دهشت من كمية النساء والفتيات الموجودات .. بعضهن يصغرن أمي بسنوات قليلة مع فارق نقوش الحناء ورائحة البخور الطاغية .. والضحكات الخليعة .. همس لي رفيقي بان بعض أصدقاءهم يفضلون النساء كبيرات السن لأنهن يمتلكن الخبرة وأشياء أخرى لا نملكهما نحن الصغيرات غير المتزوجات .. وعلى النقيض كانت هناك فتيات تخطين مرحلة الطفولة بقليل .. بعد الأكل والشراب وفواصل من الرقص بكل اللغات .. تهاوت الأجساد وأوى كل إلى مكان يتيح له فعل ما يريد .. كان العدد كبيراً لذلك توزع البعض في أركان الصالة الفسيحة على الكنبات وفي الأرض .. كل في عالمه ولا يعي بما يدور حوله ... انعدم الحياء وانهارت الحواجز .. كنت في طرف قصي من الصالة أحاول أن أجد وضعاً مريحاً في الكرسي المنخفض ويساعدني رفيقي بقلة صبر واضحة ... فجأة شعرت بيد ثقيلة تهوي على رقبتي وتشدني من شعري .. وانهالت الصفعات .. ثم أتاني صوت أمير المبحوح من الغضب والدهشة " قوم منها يا .... قوم منها يا ود ال .... واصبحت ركلاته موجعة وأنا أحاول إخفاء وجهي بيدي .. وفي اللحظة التالية هب شريكي الغاضب من انقطاع متعته وبدا بضرب أخي وسادت الفوضى .. تعالت الصرخات وتكالب جميع الأصدقاء على ضرب هذا الغريب الذي تجرا وعكر صفو الجلسة .. كل بما طالته يده أو قدمه .. كنت انظر برعب للدماء التي بدأت تتفجر من رأسه ووجهه وكل مكان فيه .. وسمعته يهمس بكل قوة يمتلكها وهو يصارع لصد الضربات المؤلمة " دي أختي ... دي أختي ... دي أختي "
وجم الجميع عند سماعهم لهمسه المصبوغ بالدم واتجهت النظرات اليّ وأنا أحاول لملمة ثيابي لتغطي جسدي شبه العاري ... وسألني شريك الشؤم " صحي دة أخوك ؟؟ " هززت رأسي إيجابا بعد أن التصقت حبالي الصوتية بسقف حلقي .. واتى سؤال من بعيد " يا جماعة الزول دة جا مع منو ؟؟ " فرد أحدهم وهو يشق الجمع كي يصل إلى الجسد المصبوغ باللون الأحمر .. وقد توقفت حركته " يا جماعة دة صاحبي وأنا عزمته ما كنت متخيل يلاقي اختو هنا " رد آخر ببرود وسخرية " الزمن دة تتخيل أي شئ .. وشنو يعني اختو ؟؟! ما ديل كلهم اخوات ناس !! ولا شنو ؟؟!! ... الله يعكر دمه .. عكر علينا قعدتنا .. قوموا شيلوه وارموه قدام أي مستشفى احسن يموت هنا ونبقى في المشاكل " كنت حريصة أن يجد آخي الرعاية الطبية اللازمة فألححت على شريكي الغاضب أخذه بسيارته ووضعناه أمام المستشفى وجلست بعيداً ارقب الأصوات المتحسرة والأيدي المساعدة وهي تنقله داخل المستشفى .. دفتري الحبيب ربما تكون هذه آخر مرة نلتقي .. لا ادري ما قد يحدث إن تعافى أخي وفضح سري .. مشاعري ممزقة بين رغبتي في شفاؤه لاجل خاطر أمي التي لم تذق طعم النوم منذ ليلة أمس وبين خوفي على نفسي .. لقد تطوع شريكي بعد إلحاح شديد مني للاتصال بهاتف الجيران وطلب أمي لإخبارها أن آخي تعرض لحادث سيارة نقل على أثره إلى المستشفى .. جرتني وراءها لزيارته .. وارتاحت خطواتي الخائفة عندما رايته ما زال غائباً عن الوعي .. كلمات الطبيب زرعت الطمأنينة في نفسي والنار في قلب أمي " والله يا حجة ولدك اتعرض لضربة قوية شديد ونزف دم كتير .. عنده ارتجاج حاد في المخ واربعة ضلوع مكسورة وفي عين اتضررت لغاية الآن ما قادرين نعرف وضعها بالضبط شنو ... لو بكرة حالته استقرت حيكون اتعدى مرحلة الخطر انتي بس ادعي ليه والله كريم قادر يشفيه " ما زالت أمي تبكي وتدعو له بالشفاء .. وأنا ابكي ودعائي يتأرجح بين شفاؤه .. وطلب الستر بأي طريقة .. ولكن أليست الطريقة الوحيدة لضمان ستري ... هي موته ؟؟ ..
***************************************************************************
قصاصة سرية من دفتر يوميات فتاة متمردة
____________________
كيف يصبح الإنسان متمرداً على كل ما حوله ومن حوله ؟؟ هل التمرد صفة تولد معنا وتظل كامنة فينا حتى تأتى الظروف التي تفجرها ؟؟ أم هي صفة مكتسبة من بيئتنا التي نعيش فيها ونتعامل بها لرفض واقع نرفضه ونجبر عليه ؟؟ بدأ تمردي منذ سن السابعة .. ربما تندهشون لأنني كتبت السابعة وليس السابعة عشرة .. لكنها الحقيقة فعندما وصلت تلك السن كان الصراع الدائر بين أمي وأبي بشأني قد وصل مداه .. وكي لا أشوش تفكيركم سوف أقص عليكم خلفية الأطراف كلها حتى تكتمل الصورة في خيالكم ... أبي السوداني الأصل يحمل الهوية الهولندية منذ عام 1986م بعد أن أتى طالباً اللجوء إلى بلد أمي قبلها بسنة .. أمي الهولندية بأصول فرنسية وألمانية كانت تعمل في مكتب شئون اللاجئين وكلفت بمتابعة ملفات السودانيين .. تدريجيا وقعت في غرام هذا الأفريقي الأسمر الذي يحمل نداء الغابة في عينيه وتحفز النمر في حركات جسده .. وغموض آسر في صوته وكأنه آت من عالم آخر يبدو بعيداً بالنسبة لهذه المخلوقة الشاحبة من شدة البياض مع شعر أشقر ذهبي وعينان بلون العشب الأخضر .. سحرها هذا البدائي العملاق .. وقبل أن تبت الحكومة في قبول أو رفض طلبه .. أعطته أمي حق اللجوء الى قلبها فمنحته الإقامة والجواز الهولندي ...
في بداية عام 1987م .. أتيت أنا إلى الوجود .. طفلة ساحرة تحمل لون كوب من الحليب أضيفت إليه قطرات من القهوة السوداء .. تجلت غرابة شكلي منذ اللحظة التي فتحت فيها عيني الكبيرتين لتشع وسط وجهي البرونزي ببريق يحمل لون السماء الصافية ففرحت به أمي لانه يذكرها بجدتها الألمانية .. كان هناك زغب بني ناعم تتخلله خصلات ذهبية يملا رأسي المستدير .. حملت اسم ياسمين .. فهو اسم عربي ويحبه الغرب .. سيكون مألوفا وسهل النطق .. نشأت في منزل ملئ بالحب والاستقرار .. وبعد وصول آخى الصغير عندما بلغت الثالثة من عمري بدأت بذرة الخلافات بين الزوجين المحبين .. أرادت أمي اسماً لا يجعل من أخي أضحوكة بين أقرانه ولا يعرضه لعنصرية الوسط الذي سيعيش فيه عندما يكبر .. أراد أبي اسماً يثبت به عروبته التي تخلى عنها بمحض إرادته .. واسلامه الذي تمسك به برغم محاولات أمي المستميتة لجعله ينساه ... استخدمت أمي سلاح الدموع والمقاطعة لفرض إرادتها .. وهي أسلحة فعالة للتأثير في قلب رجل محب .. فحمل آخي اسم مزدوج مايكل محمد .. وخلال فترة قصيرة كانت أمي قد طمست الاسم الثاني واصبح أخي مايكل فقط ... كان أبى رجلا حنونا .. ذكياً .. مرحاً .. برغم كل شئ يحمل ولاء لا حدود له لوطنه الأول اعتاد أن يجلسني في ركبتيه كل مساء ويحكي لي قصصاً عن السودان وباللهجة السودانية الدارجية .. فنشأت وأنا اعرف الكثير عن بلد أبى .. أسماء جدي وجدتي .. أعمامي وعماتي .. أسماء أبناءهم ... كانت هذه الحكايات هي قصصي المفضلة لما قبل النوم كل ليلة .. وعندما أصبحت في الخامسة حفظت عن ظهر قلب خريطة السودان بأسماء المدن والأنهار .. وكنت ارسم الطريق بإصبعي الصغير إلى مدينة أبو حمد مسقط راس أبي .
لم يكن هذا الأمر يروق لامي فحاولت منع أبي من غرس هذه المعلومات في رأسي .. لكنها لم تفلح لان الصغيرة المفتونة بابيها وقصصه كانت تطلب المزيد .. أتى رد فعل أمي مباشرا وصريحاً .. تركتني لابي وجعلت مايكل عالمها الخاص الذي لا ينافسها فيه أحد .. خصوصا وانه ورث عنها بياضها الشاحب .. شعرها الذهبي .. والعيون بلون العشب ... بمرور الوقت أضحى بيتنا معسكر مقسوم بحدود غير مرئية .. وقّع أبي وامي اتفاق ضمني بان لا يتعدى احدهما منطقة الآخر .. ظلت امي ترفض بشدة محاولات ابي تلقيني تعاليم الدين الاسلامي .. كانت تطالب بان اعطى حق الاختيار لاتباع دينه او دينها عندا اصل السن التي تتيح لي المعرفة والاختيار .. اصر ابي على موقفه .. واصرت امي .. وبدات حرب معلنة بين الطرفين انحاز فيها مايكل تلقائيا لامي .. وكنت انا حزينة وخائفة ومرتبكة مما يحدث .. وصلت الخلافات ذروتها عند بلوغي الصف الثالث الابتدائي كنت حينها في السابعة .. ووقتها بدا تمردي ... في ليلة ارتفع فيها صراخ ابي وعويل امي .. نزلت من غرفتي الى غرفتهما في الطابق الارضي .. فتحت الباب دون ان اقرعه وقفت بهدؤ اتطلع الى نظراتهما المندهشة من تصرفي .. واخبرتهما بقراري .. انا لن اتبع ديانة أي منهما .. لقد قررت ان اكون لادينية حتى يكفا عن الجدال بشاني .. واذ استمر ت حربهما سوف اخبر الاخصائية الاجتماعية في مدرستي عن عدم ارتياحي في منزلي .. كان تهديدي فعالا .. فهما يدركان معنى ان اخبر سلطة رسمية عن حربهما المتواصلة وقد يصل الامر الى اخذي منهما ووضعي تحت حماية الدولة .. بعدها كمم الخوف الافواه .. اختفت الخلافات .. واختفت معها ايضا الرابطة الحميمة التي كانت تجمعني بابي .. لكنه ما زال مصرا على اجراء أي حوار بيننا باللهجة السودانية التي رفضها مايكل بشدة .. كما رفض اسم محمد قبلها ..
في العاشرة من عمري كنت اجمل طفلة في المنطقة .. امتزاج جينات ابي وامي افرز خليطا مثيرا للانتباه .. وقتها عرفت معنى ان يكون لي صديق خاص ( بوي فريند ) اصبتكم بالدهشة مرة اخرى ؟؟ لا تندهشوا فهذا شئ متعارف عليه في بلدي لكنه كان نقطة خلاف جديدة بين ابي المعارض لنشوء علاقة مع الاولاد في هذه السن المبكرة حتى لو كانت برئية وامي المؤيدة للامر وترى انه تطور طبيعي في شخصيتي وخطوة ضرورية تمهد لانتقالي من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة .. وتمردت عليهما معا.. اتخذت صديقا تمردا على تحفظات ابي .. وكان عربيا مسلما تمردا على رغبات امي .. وجن جنونهما معا ولكن لاسباب مختلفة ... اتسعت الهوة بين افراد عائلتي ..اصبح ما يربطنا فقط عنوان المنزل المشترك .. عندما وصلت الرابعة عشرة بدات امي تفكر بالطلاق .. اخبرت ابي برغبتها فرفض بشدة خوفا من فقداني انا تحديدا لان مايكل وقتها كان قد قطع شوطا طويلا في طريق الضياع .. في الحادية عشرة من عمره اصبح صبيا عصبيا وقحا وعنيفا . حلق شعر راسه ووشم الصليب المعقوف على ذراعه .. كان يكره ابي بسبب لونه ودينه واصوله العرقية .. ويكره امي لانها تزوجت بابي .. ويكرهني لاني احمل ملامحهما معا .. في السادسة عشرة رفعت امي دعوى طلاق امام المحكمة .. ورفعت انا عن نفسي عبء العذرية التي لازمتني طيلة حياتي السابقة .. منحتها عن طيب خاطر الى سامي صديقي العربي المسلم الهجين الذي كان يكبرني بعامين .. يومها عدت الى المنزل حيث العراك اليومي بين امي وابي ومايكل .. وقفت انظر اليهما فترة وهم يتبادلون السباب .. ابي باللغة الهولندية واحيانا بالعربية التي تفهمها امي وان كانت تنكر ذلك .. امي ترد عليه بخليط من الهولندية والالمانية .. بينما يصر مايكل على الالمانية التي لا يتقنها ابي .. وفي لحظة صمت نادرة اخبرتهم بانني قد فقدت عذريتي .. صرخت امي وسقطت على الارض لعلمها بعلاقتي مع العربي القذر كما كانت تدعوه .. كاد ابي يصاب بنوبة قلبية .. اما مايكل فقد بصق على الارض بين قدمي وهو يسبني بكلمات لو كتبتها هنا لتوقفتم عن قراءة بقية يومياتي ..
مر اسبوع هادئ على بيتنا وكأن اعلاني قد اصاب الجميع بالبكم .. كان ابي صامتا وتبدو عليه علامات التفكير العميق .. امي غاضبة وباكية .. مايكل ليس له اثر في المنزل .. الاسبوع الذي يليه كان غريبا .. بدا وكأن ابي يسعى الى ترميم علاقته المدمرة مع امي ويحاول ان يسترضيها .. كما بدا يكلمني بنضج وكانه اكتشف فجاة ان ابنته الصغيرة قد اصبحت امراة .. وفي جلسة نادرة جمعتنا نحن الثلاثة فجر اقتراحه القنبلة .. طلب من امي ان يفترقا بلا طلاق لفترة معينة يعيدا فيها تقييم علاقتهما .. ان كانت بعدها ما مصممة على الطلاق فسوف يمنحها حريتها بلا مشاكل ... كانت الغرابة تكمن في انه يرغب خلال هذه الفترة في العودة الى وطنه .. السودان .. وان يصطحبني معه فترة اجازتي الدراسية التي تبلغ خمسة وثلاثون يوماً ... لم تعجبني فكرة مغادرة موطني والذهاب الى بلد غريب والبقاء وسط غرباء طيلة هذه الفترة .. وترددت امي في قبول عرضه .. وهنا تجلى ذكاء ابي حيث ظل يلوح لها بجزرة الطلاق بالتراضي مما جعلها تلين من تصلبها وتوافق شريطة موافقتي انا على الذهاب معه .. وفي جلسة طويلة استغرقت ساعات ظل ابي يحفر ذاكرتي ويستخرج منها كل القصص الجميلة التي سمعتها عن بلده وانا صغيرة .. اعادني الى ايام احببتها .. الى الفترة الوحيدة التي شعرت فيها انني اعيش وسط عائلة طبيعية وليس في ساحة حرب .. ظل يغريني بالجو الجميل والشمس الساطعة مقارنة بجو هولندا الغائم القاتم .. حدثني عن جدتي التي تتمنى رؤيتي قبل موتها .. عن اعمامي وعماتي .. كانت كلماته الاخيرة المعول الذي هدم به آخر حصون مقاومتي " ياسمين انا باحاول اصلح حياتنا عشان اسرتنا ترجع زي اول واحسن كمان .. محتاج مساعدتك ..لازم نخلي امك براها عشان تفكر بدون ضغوط .. وما شرط نقعد هناك اجازتك كلها .. صدقيني لو الوضع ما عجبك طوالي حنرجع " انا من شعب يؤمن بالوعود .. يصدقها ويفي بها .. لذلك حزمت حقائبي وذهبت مع ابي الى بلده على امل ان تكون هذه اولى الخطوات في اصلاح حال عائلتنا التعيسة ..
في مطار الخرطوم المتهالك استقبلتني شمس مشرقة وحرارة لافحة فكانت علامة ترحيب جيدة .. اثناء دخولي الى الصالة احاطتني النظرات المعجبة المندهشة من ملامحي المتناقضة .. في هذه السن كانت الجينات الأفريقية قد لعبت دورها فاصبحت امتلك جسد امرأة ناضجة .. قامة طويلة وبشرة بلون البرونز .. شعر طويل متموج في حلقات لولبية تمازج فيه البني والذهب بترتيب الهي بديع .. كانت عيناي السماويتان تتطلعان بفضول في الوجوه والمناظر .. صدمني شكل المطار فهو يفتقر للجمال والنظافة مقارنة مع مطار امستردام الفخم .. تمت الإجراءات بسهولة وخرجنا تتابعني النظرات والابتسامات والهمسات .. كان أبي صامتا بشكل يدعو للريبة ويبدو انه قد أجرى اتصالاته قبل وصولنا .. ما ان خرجنا حتى هرول الينا رجل في اواسط العمر يرتدي ما يشبه الزي الرسمي وحمل أمتعتنا الى سيارة لاندكروزر حديثة .. كانت رحلة طويلة استغرقت نصف اليوم او اكثر لم تتوقف فيها السيارة إلا للتزود بالوقود او شراء الطعام والماء .. أحسست بالخوف والتعب والغربة وصمت أبى لم يساعدني في التغلب على أي منها .. شغلت نفسي باللعب في كمبيوتري المحمول الذي أصررت على إحضاره معي .. ففيه كل عناوين أصدقائي في هولندا .. صور أمي ومايكل .. مذكراتي .. أغاني المفضلة .. كل ما احتاجه موجود داخله .. يبدو لي ان جو السيارة المكيف والهدوء الذي لا يقطعه الا صوت قرآن خافت جعلني أغفو .. استيقظت على يد تهزني برفق لاكتشف ان السيارة توقفت في منطقة سكنية تحيط بها الصحراء .. نزل ابي امام منزل متواضع غريب الشكل .. لك يكن الباب مغلقاً فدفعه ودخل وأنا اتبعه بخوف ... رأيت أمامي مساحة شاسعة أرضها تراب وفي نهايتها يوجد مبني وحيد غريب الطراز .. بدا الاستقبال بصرخة أطلقتها امرأة خرجت من المبنى الصغير .. فتبعها آخرون .. وفجأة وجدنا أنفسنا وسط دائرة من البشر الذين يبكون ويضحكون في آن واحد .. وعلى أصواتهم المتنافرة تدافعت جموع اخرى من الباب المفتوح حتى امتلأت الساحة بطوفان من البشر .. كان ابي يتنقل من ذراع لآخر باكياً بصوت عال فيما بدا لي وكأنه كابوس لن ينتهي ..
واخيرا تنبه البعض لوجودي فسالت اكبر النساء سناً " دي منو يا سعيد ؟؟ " كانت لهجة ابي مزيجا من الفخر والحزن " دي ياسمين بتي يا امي " وانطلقت الصرخات مرة أخرى واتى دوري في التنقل من حضن لاخر .. لم يتركوني الا بعد ان شارفت على الإغماء ... ليلتها اختبرت اغرب تجربة في حياتي .. النوم في العراء وتحت السماء مباشرة .. ظللت مستيقظة فترة طويلة وأنا ارقب النجوم وهي تدنو مني وتبتعد عني حتى خيل الي في لحظات أنني أستطيع إمساكها بيدي .. كنت أدرك إنها خيالات عقلي المرهق لكنني أحببتها في اليوم التالي اختبرت تجربة أخرى لا تقل غرابة عن الأولى لكنها مفزعة .. تم ذبح عدد من الخراف بوحشية بالغة بدعوى الترحيب بنا .. عزفت عن الأكل لمدة يومين حتى تفهم أبي مشكلتي واصبحت الخضراوات طعامي الرسمي ... كانت رؤيتي تثير الدهشة لدى كل من يراني .. ثم يتبعها الفرح عند سماع لهجتي السودانية الطلقة .. قابلت أعداد هائلة من البشر .. مر أسبوع من السلام الغريب عن طريق هز الذراع بقوة او الاحتضان بعنف وعانيت في نهايته من ألم حاد في ذراعي اليمين ... في الأسبوع الثاني لحضورنا اختفى كمبيوتري المحمول بصورة غامضة من الغرفة التي خصصت لي وحدي بعد أن رفضت بصورة قاطعة مشاركة أي كان خصوصيتي التي اعتدتها منذ طفولتي .. علل أبي الاختفاء بان لصا قد سطا على المنزل وسرقه اللابتوب مما أثار حيرتي .. لماذا يسرق لصا فقط كمبيوتري ويترك بقية أغراضي ومن بينها أشياء قيمة وغالية الثمن ؟؟ وعدني أبي بالبحث عنه فسكت على مضض .. لكن عندما اختفى جواز سفري وكل أوراقي الثبوتية من الدولاب أدركت ان هناك شيئا ما يحدث حولي .. شيئا غامضا يستهدفني .. فواجهت أبى بشكوكي ... ويا لها من مواجهة ...
" ياسمين .. انسي هولندا تماما .. انسي أمك ومايكل .. من هنا وجاي دي بلدك ودة بيتك وديل اهلك " احتدم النقاش وارتفع صوتي وانا ادعوه بالكاذب المحتال فما كان منه الا ان صفعني بقوة .. كانت هذه اول مرة يضربني فيها ابي .. لكنها لم تكن الاخيرة ... حبست نفسي في غرفتي وبما انه لم يكن هناك قفل في الباب القديم .. قمت بوضع كرسي وراءه ورفضت الأكل والكلام .. في اليوم الثالث كسر ابي الباب ونقلني الى المستشفى لمعالجتي من الهبوط والجفاف .. اعتنى بي الجميع بعد عودتي لكنني لم أتجاوب معهم فقد كنت اشعر بكراهية شديدة لكل من حولي .. كنت أفكر في مدى صحة كلمات امي .. هولاء العرب القذرين لا يعرفون شئيا عن الوفاء بالوعود.. يدعّون ان دينهم يمنعهم الكذب ويكذبون كما يتنفسون .. ارغب بالعودة الى وطني .. ارغب بالعودة الى امي ومايكل فبرغم كل شئ هم لا يكذبون ... بت آكل فقط ما يعينني على البقاء حية وبعيدة عن المستشفى والتزمت الصمت التام برغم محاولات جدتي العجوز وعمتي التي تكبرني بثمانية اعوام ... مرت شهور توقفت عن عدها .. ففي مدينة مثل ابو حمد تتشابه اللحظات والدقائق والساعات كنت خلال هذه الفترة قد اكملت عامي السادس عشر .. وقتها فكر ابي ان علاجي الوحيد سوف يكون تزويجي حتى يقطع كل الجسور التي تربطني ببلدي وتبقيني هنا .
وتوافد الراغبين عندما علموا برغبة ابي وما كان اكثرهم .. جميع شباب المنطقة تقريباً تدافعوا للحصول على هذه المخلوقة الهجين بجمالها الغريب ..اخيراً وافق ابي على ابن عمي الذي يكبرني بتسعة عشر عاما .. اتاني مهددا بانه سوف يذبحني كما ذبحت الخراف عند حضورنا ويدفنني في صحراء ابو حمد ان انا رفضت الزواج .. اخبرته بموافقتي شريطة ان يتم العقد بوجودي واوقع على السجل بخط يدي .. استغرب طلبي ولكن فرحته الكبيرة بموافقتي السريعة جعلته يرضخ لما اريد .. حددت مواعيد العقد يوم الخميس على ان يتم الزواج بعد شهر حينما تكتمل عملية تحويلي الى امراة سودانية كاملة وحرق الجزء الهولندي في حفرة الدخان التي اعدت خصيصا لهذا الغرض ... في اليوم المقرر لعقد القرآن البستني عمتي الثوب السوداني بعد جهد كبير وثبتته بكيمة من الدبابيس حتى لا بنفرط عقده امام الرجال .. دخلت وجلست بهدوء والعريس المرتقب يرمقني بنظرات متلهفة فرحة .. انتظرت حتى وصل الماذون لنقطة البكر ثم القيت قنبلتي في وجه ابي وعريسي وكل الحضور .. اعلنت بصوت واضح ولهجة سودانية صميمة بانني لست بكراً واخبرتهم بفقداني لعذريتي مع صديقي منذ عام .. وان ابي على علم بهذا الامر .. كانت فضيحة مدوية تكلمت عنها ابو حمد لفترة طويلة نلت بسببها ضربا مبرحا من ابي الحانق ونلت ايضا اعفاء من هذا الزواج المفروض عليّ وترحيلي من ابو حمد التي اصبحت جحيما لا يطاق من الغمزات المتبادلة في أي مكان يرتاده ابي ..
تم سجني في شقة مفروشة باحد الاحياء الجديدة في العاصمة بلا أي وسيلة اتصال بالعالم الخارجي .. لم احاول الاستغاثة .. فانا في بلده .. والقانون في صفه .. املي الوحيد هو ايجاد وسيلة للاتصال بالقنصلية الهولندية .. هذا الامل المستحيل .. كان ابي يغيب لساعات طويلة .. احيانا طيلة النهار وجزء من الليل .. حتى ايقنت انه يتفادى البقاء بمفرده معي حتى لا تستعديه نظراتي اللائمة على ضميره النائم ولا تذكره ملامحي الشاحبة بافعاله القبيحة ... تآمر ضدي الصمت والعزلة والاحساس بالظلم وبدات اهوي في بئر عميق من الياس واحسست باني اكاد افقد عقلي .. وفي ليلة طال فيها غياب ابي قررت ان حياتي ليس فيها ما يستحق ان اعيش من اجله ان كانت ستمر على نفس الوتيرة .. احضرت موس الحلاقة من الحمام وزينت معصمي بخطين رفيعين لكنهما يكفيان لاستلاب روحي المعذبة .. جلست بهدوء وانا انظر الى دمي يسيل ويملا الارض حولي .. عندما فتح ابي الباب بعد فترة قصيرة كنت لا ازال في وعيي احملق في البقعة الداكنة التي بدات تتكون تحت قدمي .. نظرت الي وجهه المفزوع بشماتة وتشف .. وعندما بدا ركضه اليائس نحوي وهو يصرخ .. غبت عن الوعي ..
فتحت عيناي في غرفة بيضاء انظف من تلك التي كنت فيها في ابو حمد .. طالعني وجه ابي الباكي ونظراته القلقة التي ذكرتني برجل كنت اعرفه في زمن مضى .. رجل اعتدت الجلوس على ركبتيه وسماع حكاياته عن وطن صار لي سجنا وجحيماً .. لم احس بالشفقة تجاهه ولا الحزن ولا أي شئ .. مجرد فراغ سكنني بعنفوان .. علمت انني احتجت لكمية كبيرة من الدم لتعويض ما فقدته .. وان ابي اعطاني دمه .. جاءت الشرطة للتحقيق في محاولة الانتحار والتزمت الصمت التام فعلل ابي الامر بعدم معرفتي للغة العربية .. واخرج لهم جوازي الهولندي .. اخبرهم باني احس بالغربة والحنين الى بلدي واهلي .. فتركوني ومضوا .. عند خروجي من المستشفى اخذني ابي مباشرة الى المطار .. سلمني جواز سفري .. كمبيوتري .. وتذكرة العودة .. بكلمات حزينة هامسة ودعني وانا مشيحة بوجهي الى الاتجاه المعاكس .. " ياسمين .. يمكن هسة ما تفهمي انا عملت كدة ليه .. لكن حيجي يوم وتفهمي لما تتزوجي ويبقى عندك اطفال تحسي انك ممكن تعملي أي حاجة في الدنيا عشان تحميهم من أي شئ .. حتى من نفسهم لو استدعى الامر .. انتي حتة مني يا ياسمين .. حبك اتزرع جواي من اول لحظة فتحتي فيها عيونك في المستشفى .. انا عملت كدة لاني عرفت من زمان اني ضيعت مايكل .. وكنتي انتي الباقية لي .. كنت عاوز احافظ عليك واحميك من حياة غلط .. لكن واضح انو انا الكنت غلط من البداية .. من يوم ما اتزوجت امك .. حاولي تسامحيني .. حاولي تفهمي وتتفهمي " تعالى نداء طائرة الخطوط الجوية الهولندية معلنا دخول الركاب .. غطيت معصمي باكمامي الطويلة .. شددت ظهري .. رفعت ذقني واتجهت الى بوابة الخروج دون نظرة الى الوراء ..
فــبرايـــر 2006م ... اصبحت في التاسعة عشرة .. انتقلت من امستردام الى مدينة صغيرة .. اعيش وحيدة في شقة خاصة بي واعمل في مجال الدعاية والاعلان .. خارج نطاق العمل اعيش كقط بري لا يألف الناس ولا يتعايش معهم .. اصد كل محاولات التقرب وارفض العلاقات الاجتماعية .. في الليالي الطويلة الباردة التي يجافيني فيها النوم .. اغمض عيناي واسترجع ذكرى سماء تغطيني ونجوم تدنو وتبتعد .. وفي لحظات اكاد اقسم باني اشم عبير الصحراء ومن وراء التلال يتراءى لي وجه حزين يطالبني بالتفهم والغفران .. وجه لكيان احمله داخلي طباعا وملامح .. في احدى المرات صورت اعلانا وضع في غلاف مجلة مشهورة .. كتب احد النقاد معلقاً على شكلي الغريب " يا له من جمال فريد .. في عينيها نداء الغابة .. وفي حركاتها توثب نمر افريقي .. يحيط بها جو من الغموض وكانها من عالم آخر .. ارسلت المجلة بالبريد الى عنوان ابي في ابو حمد .. اتمنى ان تكون قد وصلته ...
***************************************************************************
قصاصة سرية من دفتر يوميات فتاة معقدة أنا معقدة
_________________________
.. نعم اعترف بهذا الأمر .. وهي صفة تم زرعها داخلي بألم مع مرور كل يوم من أيام حياتي .. ومع كل تجربة بسيطة تمر على الباقيين مرور الكرام دون أن تخلف وراءها أثرا يبقى .. لا أستطيع أن القي اللوم على من كانوا سبب إحساسي بالنقص .. فأنا قد ولدت بأسباب عقدي .. عندما حملت بي أمي كانت قد دخلت عقدها الخامس بسنة فتغاضت عن كل الموانع اعتبارا منها بأنها قد وصلت مرحلة الأمان من احتمال حدوث أي حمل .. حتى انقطاع دورتها الشهرية عللته أبانها قد وصلت إلى سن اليأس وهذا تطور طبيعي يحدث لكل النساء في عمرها ... كانت امرأة ممتلئة الجسد وكل ما فيها مستدير لذلك لم يلفت بطنها المتكور انتباه أحد خصوصا وإنها لم تعان من أعراض الحمل التقليدية إلا بعد وجودي داخل أحشاءها بخمسة اشهر .. عندها بدأت تعاني من ارتفاع ضغط دمها .. التعب لاقل مجهود .. والنوم لفترات طويلة تنافست فيها مع أختي وداد التي كانت تحمل طفلتها الثالثة منذ أربعة اشهر ونصف وعندما تزايدت أعراض المرض على أمي حملوها إلى الطبيب وبعد الفحوص التقليدية ظهرت النتيجة التي كانت بمثابة قنبلة سقطت في منطقة هادئة لا حرب فيها .. فأشاعت الرعب وملأت القلوب بالتوجس .. تباينت ردود الفعل ما بين مصدق ومكذب ومصدوم ورافض .. وكان الأوان قد فات للتخلص من وجودي المزعج بعد أن تخطت أمي الشهور التي يمكن فيها إجراء عملية للتخلص من المتطفل آلاتي دون تعريض حياتها للخطر فنجوت من الوأد المبكر .. ويا ليتهم قتلوني وقتها .. فعدم وجودي ارحم كثيرا من ألم حياتي الحاضرة ...
مرت الأيام وحمل أمي يزداد صعوبة .. وفجأة أعلنت عن وجودي بعنفوان فاصبح بطن أمي كبالون قابل للانفجار في أي لحظة .. بعد تجاوز الإحساس بالصدمة والخجل من الحمل في هذا العمر المتأخر أصبحت أمي سعيدة بفكرة وجودي لانه أعاد إليها أحاسيس كانت تظن أنها فقدتها إلى الأبد .. واصبحت تتيه على نساء الحي بأنوثتها المثبتة ببطنها المتكور وهو يعلن بخيلاء أن خلفه امرأة ما زالت هرموناتها تعمل بكفاءة عالية ... حتى أبي اصبح اكثر لينا وحنانا .. وهبة الأبوة المتأخرة جعلته يزهو وسط أصدقاؤه ... أثناء فحص روتيني للجنين خلال الشهر السابع اكتشف الطبيب أن هناك غرابة وشذوذ في التكوين الجسدي للطفلة .. وأنها قد تخرج للحياة بالعديد من الإعاقات وارجع الأمر إلى الحمل في سن متأخرة إضافة إلى استعمال موانع الحمل لفترة طويلة .. تقبلت أمي الأمر بامتثال وخضوع لارادة رب العالمين لكنها لم تستطع إخفاء صدمتها وانفجرت بالبكاء عندما أعطوها قطعة لحم صغيرة حمراء بملامح مطموسة مع نتوء كبير في الجهة اليمنى من كتفها الصغير .. ألم أخبركم باني قد ولدت بأسباب تعقيدي ؟؟ المضحك في الأمر أن أمي قررت وبكل إصرار تسميتي " جميلة " كأنها أرادت أن تثبت لنفسها وللآخرين إن شكلي لا يهم .. وإنني طفلتها الجميلة في عينيها مهما كان مظهرها .. مرت السنوات سريعة كنت خلالها اكبر يوما بيوم مع إيمان ابنة شقيقتي وداد التي وضعتها بعدي بيومين ... فكنا كالتوأم وليس كخالة وابنة أختها اعني توأم في الإحساس ومسار النمو وليس في الشكل لان إيمان كانت طفلة جميلة بكل معنى الكلمة عكسي أنا خصوصا بعد أن تمركزت الحدبة في وسط ظهري مع حجم ضئيل وقدم اقصر من الثانية بعدة مليمترات .. عدا ذلك لم اكن أعاني من شئ .. على العكس كنت امتلك ذكاء غير عادي بالنسبة لطفلة في عمري .. تكلمت بطلاقة في شهري الرابع عشر .. في عمر ثلاث سنوات كنت قد حفظت جداول الضرب وقصار صور القرآن الكريم والحروف الأبجدية العربية والإنجليزية .. كنت تجسيد لمقولة كل ذي عاهة جبار .. مرت سنوات الدراسة بين المتعة والعذاب .. متعة التفوق والنبوغ .. وعذاب الرسوب في العلاقات الاجتماعية .. تميزي الأكاديمي جعلني أتخطى أقراني بعدة سنوات فوجدت نفسي في صفوف أعلى بزميلات اكبر سنا واكثر قسوة .. لم يعجبهم أن تأتى هذه الفتاة المعاقة لتحتل المرتبة الأولى وتصبح نجمة المدرسة .. أحيانا كنت اسمع همسهم وهم يصفونني بكلمة " الخلاقة " من وراء ظهري فاتالم والعن سمعي الحاد الذي يجعلني التقط الهمس من مسافات بعيدة ...
في الرابعة عشرة كنت اصغر طالبة تجلس لامتحان الشهادة السودانية .. كانت الرياضيات التخصص مادتي الأساسية .. والأحياء مادة إضافية .. أهلني مجموعي لدخول كليتي الطب والهندسة من أوسع الأبواب .. فاخترت كلية العلوم الرياضية وتخصصت في الحاسب الآلي لعلمي باني سأبرع في التعامل مع الأرقام الجامدة اكثر من براعتي مع البشر .. طيلة سنوات الدراسة الجامعية كنت اجلس منزوية ارقب علاقات تبدا وأخرى تنتهي .. نظرات ولهى وأخرى حزينة .. همسات ناعمة وضحكات فرحة .. كنت أدرك أنها مشاعر لن تمر بي ولن اختبرها أبدا وسأظل العب دور المتفرج الوحيد في مسرح المشاعر حتى آخر يوم في عمري .. وكانت هيئتي سبب وحدتي ونفور الناس مني ..لم يكن بمقدورهم النظر إلى ابعد من ظهري المحدوب أو رجلي العرجاء ليرى جمال روحي أو صفاتي الأخرى واكتفى الجميع بالفرجة المجانية على هذا المخلوق المشوه .. كنت أتظاهر بالتجلد والبرود أمام النظرات المشفقة أو المندهشة وعودت نفسي على عدم الاهتمام بمن حولي من البشر ... حتى التقيته .. كان مخلوقاً بالغ الوسامة .. دمث الخلق .. حلو المعشر .. يملك ابتسامة لها القدرة على إذابة جليد القطب الشمالي .. وضحكة تجعل الشجر يرقص .. في عينيه بريق آسر .. صوته بعمق البحر .. لونه بصفاء الذهب .. مع شخصية قوية تفرض وجودها المهيمن حيثما حلت .. حتى أنا التي كنت احتقر الجمال .. احترمته .. واحببته .. نعم أحببته دون تخطيط او تعمّد .. تم لقاؤنا صدفة في إحدى الندوات التي تقيمها الجامعة عن البرمجة والصيانة .. كنت في سنتي الأخيرة بالكلية وقد ذاع صيتي كعبقرية في مجال الكمبيوتر .. تصلني الدعوات من كل مكان لحضور المؤتمرات التي اقدم فيها أفكاري وبرامجي التي جعلت كل شركات التقنية تتمنى أن انضم إليها .. ووصلتني عروض مغرية حتى قبل التخرج .. رفضت كل العروض لأنها كانت تقدم لجميلة الآلة المتطورة .. وليس جميلة الإنسان الكامن وراء المظهر المنفر .. بدأت علاقتي بأسامة بعد نقاش حاد عندما اختلفت وجهات نظرنا في موضوع يختص بالبرمجة وتشبث كل من بوجهة نظره .. لقد نسيت أن أخبركم بأنه محلل نظم حاصل على ماجستير في مجاله من جامعة بونا بالهند .. انشأ شركة مع مجموعة من أصدقاؤه وكانت تتقدم بخطوات حثيثة .. بعد ذلك النقاش التقينا عدة مرات ولعب اهتمامنا المشترك بالكمبيوتر دوره في تقريب وجهات النظر .. طلب مني الحضور إلى شركته لإبداء رأيي في بعض المسائل الفنية .. وبعد العمل جلسنا في مكتبه الصغير وكان حوارا طويلا في شتى أمور الحياة .. اكتشفت بعدها انه يقرا نفس كتبي ويسمع نفس أغنياتي .. يحب نفس شعرائي .. أحسست بما يشبه الخدر يتسلل إلى أعماقي .. كان للحديث معه لذة غريبة .. متعة خالصة .. وكانت كلماته تصافح أذني كقطرات من العسل الشهي في فم اعتاد مذاق المرارة .. كل هذا وهو لاهي عن الأثر الذي يحدثه في نفسي ..
بمرور الأيام وتعدد اللقاءات غرقت تماما في حب هذا الرجل الحلم ... هذا الحلم المستحيل .. برغم معاملته المتميزة الا انني لم اعطي نفسي الحق في التفكير بانها قد تنم عن شئ غير الاحترام لعملي وعلمي وتفوقي في مجال هو يحبه .. اصبحت لقاءاتنا شبه يومية .. وصار وجودنا الدائم معا مثار تعليقات وغمزات .. فقد صدف يوما وجودي في مكتبة الجامعة وراء كومة عالية من الكتب التي اخفت حجمي الضئيل .. وفي طاولة بعيدة عني جلست فتاتان جميلتان تتحدثان بهمس خافت .. استطاع سمعي الحاد ان يلتقطه بسهولة .. كنت انا واسامة محور الحديث ... " تصدقي انا محتارة في الولد دة .. بسماحته دي كلها ما لقى غير البت المخلقنة دي يمشي معاها ؟؟ والموضوع باين عليه كل يوم بيتطور زيادة .. في الاول كان بيجي كل فترة .. هسة يوم والتاني ناطي ليها .. يا ربي العاجبه فيها شنو ؟؟ ظهرها ابو حدبة ولا رجلها العرجاء .. حتى وشها شين ولونها عامل زي الطين .. وكلامها دشن وكله عن الكمبيوتر والرياضيات عاملة فيها اينشتاين " ردت الاخرى بصوت ناعس " يا عويرة ما هو دة الفلم زاته .. مش بيقولوا كل راجل عنده مفتاح لقلبه ؟؟ الزولة دي زكية شديد وعرفت من وين تدخل ليه لاني على حسب ما عرفت انو هو زاته بتاع كمبيوتر وعنده شركة .. يعني الاهتمامات المشتركة لعبت دور .. تصدقي احتمال ما يكون شايف منظرها دة زي ما احنا بنشوفه ؟؟ احتمال يكون شايفها بعيون تانية .. من كمبيوتر لكمبيوتر يعني " يبدو ان مزاح ذات الصوت الناعس اغضب ذات الصوت الحاد فنسيت هدوء المكتبة وعلا صوتها وهي ترد على صديقتها " بلا عيون تانية ولا تالتة .. الزولة دي بكل العيون بتتشاف قبيحة .. لا والمهزلة انو اسمها جميلة ؟؟ والله ما عارفة اهلها ديل لمن سموها الاسم دة كانوا بيفكروا في شنو ؟؟ .. عارفة انا لمن اشوفهم مع بعض باتذكر مسلسل الجميلة والوحش بس هنا الآية معكوسة نسميها الوسيم والقبيحة وبدل فنسنت وكاثرين عندنا جميلة واسامة "
جعلتني الكلمات القاسية انزوي اكثر واكثر وراء كومة الكتب وانا افكر بمرارة ما اصعب ظلم الانسان لاخيه الانسان .. وما اشد قسوة البشر على بعضهم البعض .. قسوة تفوق تلك التي تمارسها الوحوش في الغابات .. اقله هي تقتل بدافع الجوع فقط أي لسبب مشروع .. ولكن البشريقتلون بعضهم بلا اسباب .. عندما عدت الى المنزل ذلك اليوم اغلقت باب غرفتي وغرقت في حزن عميق .. احسست بالرثاء على نفسي ولعنت ظروفي .. لقد اعادتني همسات المكتبة الى ارض الواقع بعد ان عشت في خيالي لفترة طويلة .. منذ تعرفي باسامة اصبحت احس وكأنني كازيمودو قارع اجراس كنيسة نوتردام الاحدب القبيح الذي احب ازميرالدا الغجرية الجميلة .. واصبحت هذه القصة مرجعي الذي اعود اليه كل ليلة لاذكر نفسي بما قد يكون . تخرجت بامتياز مع مرتبة الشرف الاولى .. انهالت علي عروض العمل من كل مكان حتى من خارج السودان .. وبرغم المغريات الكثيرة الا انني فضلت البقاء في السودان .. حيث يوجد اسامة .. قبلت منصب معيدة في الجامعة حتى يتوفر لدي الوقت لتحضير رسالة الماجستير ووزعت وقتي بين الجامعة صباحا .. المكتبة ظهرا .. وشركة اسامة مساء حيث عملت كمستشار براتب مجزي .. وقتها اعتقدت بان الحياة لا يمكنها ان تكون اجمل مما هي عليه .. ما زال اسامة يزرع الامل بداخلي مع معاملته المميزة ولطفه ومراعاته .. وانا ما زلت ازرع حبه سرا مع كل نظرة او لمسة غير مقصودة اثناء العمل سويا على لوحة المفاتيح .. تغيرت نظرتي للحياة .. خلعت منظاري الاسود واعتبرت نفسي في مرحلة انتقالية كي البس الوردي .. استمر الحال هكذا حتى جاء اليوم الذي تم فيه تعيين سوزان المتخرجة حديثا من كمبيوتر مان للعمل كفنية في الشركة التي اصبحت بفضل وجودي وعملي المخلص من اكبر الشركات واتسع نشاطها ليشمل خدمات ما بعد البيع عندما افتتحنا صالة العرض الضخمة التي تضم احدث ما وصلت اليه التكنولوجيا في هذا المجال بالطبع كان مكان سوزان في الواجهة بسبب جمالها الفتان ورشاقتها المبهرة واناقتها المفرطة ولغتها المميزة .. بينما اكتفيت انا بمكتب صغير في آخر الصالة .. بمجرد رؤيتها قرع كازيمودو اجراس الخطر في راسي .. لكنني اسكتها وجلست اراقب توددها المستتر الى اسامة .. كل يوم اقيس درجة صموده بترمومتر حساس احمله داخلي .. بدات اشارات الترمومتر بالانخفاض وانا عاجزة عن التدخل ..
لم تكن تحبني .. وتغار من طريقة اسامة في معاملتي .. تبا لسمعي الحاد .. لماذا لم يكن ناقصا كبقية اجزاء جسدي ؟؟ كنت معتادة على الحضور عند الساعة الخامسة مساء .. لكن في ذلك اليوم المشئوم اتيت مبكرة وجلست في مكتبي الصغير دون ان التقي احدا .. لم اتعمد الاختباء او عدم اعلان وجودي .. كنت اعلم ان ياسر سوف ياتي لتفقدي حالما يصل مثل كل يوم .. سمعت ترافق خطواتهما معا .. خطوات اسامة هادئة وواثقة وكعب سوزان العالي وهو يضرب سيراميك الارضية بتتابع رتيب وهما يتجهان الى مكتب اسامة .. لماذا اتوا مبكرين اليوم ؟؟ كنت اود ان انعم ببعض الهدوء والعزلة لترتيب اوراق بحث الماجستير .. لذلك لزمت مكاني وهممت بفتح حقيبتي المنتفخة بالاوراق عندما اتاني صوت الضحكة المليئة بالدلال والغنج .. شيئا ما فيها جمد حواسي فتوقفت يدي في منتصف الطريق واصخت السمع ليأتيني صوت سوزان متبرماً ملحاً ... " اسامة .. انا ما عارفة انت ليه مصر على وجود جميلة في الشركة ؟؟ .. خلاص انا موجودة وممكن اقوم بكل شغلها .. ولا انت ما عندك ثقة في كفاءتي ؟؟ وبعدين تعال اسالك انت ليه ما عاوزها تعرف بعلاقتنا ؟؟ وليه بتتعامل معاها بالطريقة دي ؟؟ البيشوفك بتعاملها كيف يقول بتحبها .." وكان رد اسامة ضربة قاسية لكازيمودو .. " سوزان .. قولي بسم الله .. احبها شنو ؟؟ واحبها كيف يعني ؟؟ هو البيعرفك انتي تاني بيقدر يحب بت غيرك ؟؟ خلي تكون جميلة ؟؟ انا بس مجرد باشفق عليها عشان حالتها .. دي بت مسكينة ما تشوفي شكلها القبيح دة لكن جواها انسانة جميلة ومثقفة وفاهمة شديد .. و .. قاطعته سوزان بصوت ممتلئ غيرة وحقداً " يا اخي ما تنظم لي فيها قصيدة شعر ؟؟ بلا جميلة بلا مثقفة .. اسمع يا اسامة انا المخلوقة دي ما باحبها .. يا اخي لمن اشوفها بتجيني غمة في صدري .. باتشاءم من منظرها وبتذكرني افلام الرعب .. وهي زاتها بتكرهني شديد وما طايقة وجودي في الشركة .. يبقى خلاص انت حدد منو فينا التقعد ومنو التمشي " كان صوت اسامة مستعطفاً وملحا " يا سوزان كبري عقلك .. انا محتاج لجميلة عشان الشغل يمشي .. انتي عارفة انو الزولة دي عبقرية في مجالها .. والشركات المنافسة لي كلها بتتمنى لو بس تديها ساعة من وقتها .. ما باقدر افرط فيها .. حاليا على الاقل لغاية ما الشغل يثبت شوية .. واوعدك بعد كدة استغنى عنها "
وكأن اصرار اسامة على وجودي زادها غيرة وعناداً فاتى صوتها حادا ومصمما ً " خلاص يا اسامة لو انت اخترت تخلي جميلة انا حاطلع .. مش من الشركة بس .. من حياتك كلها .. انا باقول ليك يا انا يا هي " بدا صوت ياسر متوترا وهو يرجوها " يا سوزان ما تختيني في حتة ضيقة .. البت بتشتغل لي بكل اخلاص .. عاوزاني اقول ليها شنو ؟؟ فجاة كدة ما عاوزك ؟؟ " وقبل ان ترد سوزان اتاه ردي " ما في داعي تقول أي شئ يا اسامة ... وشكرا يا سيدي على شفقتك وعطفك يسعدني ارجعهم ليك لاني ما محتاجة ليهم .. ومعاهم هدية ليكم الاتنين مرتب الشهر دة .. اعتبروها هدية عرس مقدمة مني ليكم " خرجت بكرامة جريحة .. قلب مكسور وظهر محدوب ... رفضت كل عروض العمل المغرية وقررت التفرغ للجامعة والتحضير ... وعالمي الخاص .. عندما ياتي الليل ويسود الهدوء احضر لنفسي كوب شاي بالحليب ..ساندويتش جبن بالطماطم .. وافتح ابواب عالمي الخاص .. عالم يتكون من نفسي التي ازدادت عقدها .. ولوحة المفاتيح .. وخيال واسع .. عالم خلقت فيه عدد لا متناه من الاشكال والاسماء .. عالم النت الغريب .. عالم انا المتحكمة بسير الامور فيه .. بضغطة زر اصنع كيانا جديدا .. وبآخرى امحوه .. لكل شخص التقيه انا شخصية جديدة باسم جديد وهيئة مختلفة .. القاسم المشترك بينهم جميعاً ان كل الاسماء جذابة وموحية .. وكل الهيئات جميلة وساحرة .. ليس فيها عيب او نقص .. ولجت كل المنتديات السودانية .. واصبحت نجمة فيها .. في منتدى الحب .. انا حبيبة .. الفتاة الجميلة المدللة التي تدخل وهي تتابط لوحة اشارات فتعطي هذا الضوء الاخضر وتضع آخر في الاصفر لتضئ الاحمر لمغفل صدق اكاذيبها ووعودها ... في منتدى العقلاء انا لبابة الفتاة العاقلة المثقفة التي يطلب الكل وصالها وتتمنع .. في منتدى الضحك والفرفشة .. انا بسمة الشقية المرحة .. احب الفرح واكره الحزن .. واصبحت ضوء تدور حوله الفراشات .. تعلقت بي قلوب الكثيرين .. وفي كل ليلة تاتيني عشرات رسائل الحب .. ومئات الطلبات بكشف هويتي او وضع صورتي .. وكنت اجد لكل طلب حجة مختلفة .. وكان تمنعي يزيد الجميع اصرارا .. يا لهم من مغفلين يتنفسون السذاجة .. الا يملكون من الفطنة ما يكفي لادراك ان النت ما هو الا اكذوبة صنعها شخص مثلي خاف ان يواجه العالم فاختبا وراء الشاشة ولوحة المفاتيح واصبح تجسيد لكل الاحلام والامنيات ؟؟ ام تعمدوا ان يغرقوا في هذا العالم الخيالي واتقنوا لبس الاقنعة الجميلة الملونة التي تخفي قبحهم وقسوتهم وضياعهم ؟؟
لا اشعر بالندم لما افعله بهم .. انهم يستحقون اكثر بكثير نظير ما فعلوه بي .. كل الذين رفضوني في الواقع احبوني في الخيال .. كل من كره مظهري واشماز من شكلي جعلته يعشق صورتي الوهمية سوزان .. التي يبدو ان حبها لاسامة لم يكن متينا بقدر ما رادت ان تجعله وتصدقه .. فقد اغرقتها في وهم رجل ناضج ثري يبحث عن زوجة جميلة ومتعلمة تحب السفر ورؤية العالم مع زوج متفتح ووسيم .. جعلتها تتخلى عن واقع جميل سرقته مني بقسوة لاجل الحلم القادم من وراء البحار بعد ان اقنعتها بانه في الطريق وقد اقترب موعد وصوله .. تخلت عن اسامة وما زالت تنتظر حلمها .. اسامة يعيش قصة حب ملتهبة عوضته عن فقد سوزان .. حبيبته هيَا الفتاة السودانية التي تعيش مع والدها المستشار في قصر السلطان قابوس .. فتاة كاملة المواصفات .. رسمتها بإتقان كي تتوافق مع كل تطلعاته ورغباته .. حتى صورتها التي ارسلتها بعد تمنع دام شهوراً صممتها ببرنامج طورته بنفسي .. صورة فتاة حلم تحمل عيون ميسم نحاس وشعر ميريام فارس .. قوام اليسا ودلال نانسي عجرم .. تحفظ شعر نزار قباني وبدر عبد المحسن .. تقرا لعبد الرحمن منيف وماركيز .. تستمع لمصطفى سيد احمد وتهيم باغاني سيلين ديون وغريج ديفيد .. ما زال اسامة بانتظار حضورها في الاجازة كما وعدته والا فسوف يحضر هو اليها كما هددها .. اتمنى ان ارى وجهه لحظة وصوله ليجد الخيال بانتظاره .. لقد اصبح هذا عالمي الذي احفظ دروبه عن ظهر قلب واتجول فيه بكل ثقة .. لا اسمح لاحد بمعرفة مكانه ولا دخوله .. فانا امهر من ان اترك اثرا يقتفى او ثغرة لدخول المتطفلين الفضوليين .. انت .. نعم انت يا من تقرا سطوري الان .. ربما كنت احد ضحاياي السابقين .. او قد تكون ضحيتي القادمة .. لن تعرفني .. ولن تدرك من اكون حتى اللحظة الاخيرة عندما تصبح واثقا من انك قد امتلكني .. لحظتها فقط ساذهب عنك واتركك تطارد سراب وجودي وخيالي الذي صنعه بيدي وأوهامك .. احذروني .. يا من طردتموني من عالمكم بدعوى حب الجمال .. لقد أدخلتكم عالمي أيضا بدعوى حب الجمال .. لقد جعلتم حياتي مجموعة من العقد المتصلة .. وأنا الآن استخدمكم لاحل عقدي التي صنعتموها .. احذروني ... فأنا اقف وراء كل فتاة جميلة تقطن عالم النت وتتقن الضرب على لوحة المفاتيح .. والقلوب أحذروني .. فانا اكمن داخل كل رسالة تأتيك من مجهولة تدعي الوحدة وترغب في تكوين صداقات .. أحذروني ... فانا اعيش داخل كل اسم مستعار .. احذروني .. فانا كازيمودو الذي اصبح ازميرالدا ...
***************************************************************************
قصاصة سرية من دفتر يوميات امراة خائنة
_____________________
لن أدون في دفتر يومياتي تاريخ ولا ساعة .. فالندم إحساس غريب يبتلع كل التواريخ .. يحتل كل الأوقات .. يسجن الدقائق والثواني ويرهن بقية العمر لحسابه بكل قسوة .. كانت البداية عادية ولا تعطي أي لمحة عن النهاية القبيحة ... ومتى كانت البدايات تعطي دلالة النهايات ؟؟ لو حدث هذا لما أعطى يوليوس قيصر ظهره لصديقه بروتوس .. ولا تبنى فرعون مصر الطفل الرضيع الذي أتاه على مهد عائم .. ولما عرفتني بدور على زوجها... التقينا صدفة بعد فراق دام اثنتي عشرة عاماً .. ذهبت لاداء واجب العزاء في إحدى قريبات زوجي الدكتور مصطفى ... كانت تجلس في مواجهتي وترمقني بنظرات طويلة متأملة .. في البدء ظننتها إحدى مريضاتي اللائى عالجتهن في زمن مضى .. او ربما هي تمعن النظر لتتاكد من انني الدكتورة صفاء المشهورة في مجال طب النساء والولادة .. جمعتنا جلسة الغداء فاذا بها تسالني بصوت ناعم أعاد لي ذكريات قديمة مبهمة .. " صفاء ؟؟ انتي ما عرفتيني مش كدة ؟؟ انا بدور عبد الفتاح .. كنا مع بعض في مدرسة الخرطوم الثانوية صف خوارزمي " .. يا لها من ذكرى بعيدة .. كانت بدور من اكثر الطالبات هدوءاً في الصف .. لم تكن بمثل ذكائي ولا شقاوتي لذلك انتمينا لمجوعات مختلفة .. لكن كثيرا ما جمعتنا نشاطات مشتركة في حصص العلوم او الدروس الخاصة .. كانت معرفتي بها سطحية وتقتصر على تبادل التحية كلما التقينا .. لم نكن صديقات ..
ددت تحيتها بحرارة .. فرؤيتها اعادت لي ذكريات اجمل مراحل العمر .. مرحلة الصداقة المتينة البريئة المنزهة عن الاغراض .. الأحلام الكبيرة .. مرحلة التفتح والانطلاق .. حميمية العلاقات التي ربطتني بفتيات ما زالت بعضهن في حياتي بصورة او باخرى .. اخترنا ركناً بعيدا هادئا وجلسنا نحتسي الشاي ونجتّر الذكريات " ما شاء الله عليك يا صفاء من يومك شاطرة شديد وكنتي مصرة على كلية الطب .. عارفة كل ما اشوفك في الجريدة او التلفزيون اقول لراجلي دي كانت زميلتي في الثانوي واقعد احكي ليه عنك وعن شقاوتك انتي وشلتك الكنتوا بتعملوها ايام المدرسة .. وبصوت ضاحك اخذنا نسترجع تلك الايام ... " تتذكري يا صفاء لمن انتي وصحباتك تتلموا جنب النافورة في الفسحة وتقعدوا تغنوا وترقصوا ويجي المدير طاير من مكتبه وشايل عصايته وبيكورك ( يا بنات يا قليلات الادب يا عديمات التربية ) وانتو تجروا تتدسوا منو ورا الشجر ؟؟ .. اجبتها بضحكة جعلت العديد من الاعين المستهجنة تلتفت الينا فنهرتها بلطف " هي يا بدور انا نسيت اننا في بيت البكا .. اسكتي الناس ديل بعد شوية بيجوا يطردونا " فواصلت بصوت هامس " ولا تتذكري لمن انتي وصحباتك قررتوا تمشوا اسبوع العلوم في جامعة الخرطوم وقمتوا دخلتوا بالنفاج البين بيت المدير والمدرسة ونطيتوا حيطة الشارع ؟؟ اظن المرة ديك طلبوا ليكم اولياء امركم .. كتمت ضحكتي وانا اشعر بالبهجة تغمرني لهذه الذكريات الرائعة .. كان صوت بدور الهامس يعيد عقارب الساعة الى الوراء بنعومة جعلتني اتذكر كيف كنت انا وصديقاتي نتفق على الهرب من الحصص ومغادرة المدرسة بسرية تامة .. الذهاب الى شارع (15) والوقوف امام واجهة كوافير كيلوباترا والاستوديو المواجه له .. نتفرج على فساتين الزفاف وصور العرائس .. نتسكع امام البقالات بعد ان نشتري الفول السوداني والتسالي من البائعات المصطفات على طول الشارع .. ثم فجاة نقرر الذهاب الى شارع (41) لاكل الايسكريم .. حيرتنا في كيفية الوصول ثم الاتفاق على ركوب ( يا عم ) .. فرحة اصحاب العربات بركوبنا معهم .. غمزاتنا البرئية عندما نعطي اسماء مزورة لمن يحاول معرفة اسماءنا .. يا لها من ايام ..
لم تنتبه بدور لشرود ذهني وعندما عدت اليها كانت ما زالت تضحك وهي تقول " الشئ الوحيد الكان بيشفع ليكم برغم شيطنتكم انكم كلكم كنتوا شاطرات شديد ومن اوائل الفصول .. وكل الناس كانت مستغربة كيف تكونوا شقيات كدة وشاطرات في نفس الوقت ؟؟.. الا باقي شلتك وين لسة متواصلين ولا الحياة فرقتكم ؟؟ .. اجبتها بابتسامة حقيقية عريضة لم اذق طعمها منذ وقت طويل.. " امينة دخلت هندسة وبعد ما اتخرجت اتزوجت ولد عمها ومشت معاه السعودية .. سعاد كانت في الاحفاد وبعد ما اتخرجت بقت معيدة فيها .. وما اتزوجت لغاية الان .. محاسن كانت معاي في طب واتخصصت جراحة في لندن وعايشة هناك اتطلقت وقالت ما عاوزة تتزوج مرة تانية .. هبة قرت كيمياء نووية .. هاجرت امريكا اتزوجت هناك امريكي مسلم ووضعها كويس خالص .. سمعت تحت تحت انها شغالة مع الحكومة وبتاخد ملايين .. كلنا بنتراسل من وقت للتاني .. لكن سعاد معاي طوالي وبنتلاقى اسبوعيا .. اها انتي عملتي شنو ؟؟ سالتها وانا انظر بفضول الى طبقات الشحم الهائلة التي تغطي جسدها .. ربما لهذا لم اتعرف عليها في البدء فقد كانت ذات قوام نحيل ايام المدرسة اما الان حتى ملامح وجهها تغيرت .. استقبلت نظراتي بابتسامة متسامحة وردت على تساؤلي الصامت بهدوء " انا مجموعي دخلني علوم اغذية جامعة الجزيرة .. ولمن كنت في سنة تانية شافني اخو صاحبتي لما مشيت معاها بيتهم في مدني .. مهندس بترول في قطر وكان جاي اجازة مخصوص يفتش على عروس .. المهم يا ستي حصل النصيب واتزوجنا في اجازة نص السنة على اساس اني اقعد في السودان لغاية ما اخلص دراسة لكن امشي ليه في الاجازات .. الحصل اني جيت من شهر العسل حامل وكان حمل صعب شديد لانهم كانوا توام وطبعا ما قدرت اواصل السنة ديك ولا البعديها ولا البعديها لمن ضاعت فرصتي في الدراسة .. بعد ولادة حسن وحسين اصر عز الدين نكون معاه في قطر كان عارف اني ما حاقدر على الاولاد براي .. المهم مشيت ودخلت في دوامة الغربة والولادة تاني .. لمن التيمان تموا سنة حملت تاني واجهضت لانو صحتي كانت ضعيفة .. بديت استعمل موانع لانو الدكتورة بتاعتي هناك قالت انو خصوبتي عالية شديد والتنظيم ما حينفع .. ركبت لولب وكان حيقتلني وعمل لي مشاكل كتيرة لغاية ما طلعته .. اضطريت ابلع اقوى نوع حبوب وهو العمل فيني كدة .. زاد وزني بصورة رهيبة .. اضطريت وقفتها طوالي قمت حملت بمحمد .. ولمن كان عمره ستة شهور حملت تاني بالتومات هديل وهيام .. على فكرة عز الدين زوجي توم وامه زاتها تومة عشان كدة المسالة وراثية .. وقتها كنت تعبت شديد من قصة الحمل والولادة ورا بعض وبقينا ما قادرين نعمل كنترول على الموضوع ..
تناقشنا انا وعز وقررنا اربط العرق وخلاص كفاية علينا الخمسة عيال الله يدينا الصحة وطولة العمر عشان نربيهم .. بعد كدة قرر عز يرجع السودان نهائي وقال تعب من الغربة وعاوز يبدا ياسس شغل خاص بيه .. وفعلا جينا قبل سنتين اشترينا لينا بيت كبير في المنشية .. دخلنا العيال المدارس وعز فتح ليه شركة معدات حفر والات ثقيلة .. ودي كل اخباري .. يلا قولي لي عندك كم ؟؟ انا من هسة حاجزة بناتك لاولادي .. اكيد ورثوا شطارة امهم وسماحتها " اصابني سؤالها بطعنة قوية فرفعت راسي ورمقتها بنظرة حادة جعلت الابتسامة تختفي من ملامحها .. ثم استعدت سيطرتي على نفسي .. هذه السيطرة التي احتجت سبع سنوات كاملة كي اكتسبها واصبح منيعة امام هذا السؤال المقتحم المدمر " انا ما عندي عيال يا بدور ... الله ما اراد " بانت علامات الحرج واضحة على وجه بدور الشفاف ثم خاطبتني بذات اللهجة المتعاطفة المواسية التي سئمت منها " ونعم بالله يا صفاء دي حاجة ما بايد البشر .. دي بايد رب العالمين " ثم نهضت تلملم حرجها وهي تعتذر .. " معليش يا صفاء انا لازم امشي لاني اتاخرت شديد على الاولاد خليتهم مع الشغالة وتلاقيهم جننوها .. ترددت قليلاً ثم اضافت بخفوت " لو تحبي نتواصل يا صفاء ممكن اديك رقم تلفوني .. انا عارفة انك مشغولة شديد وما عندك وقت للمجاملات الكتيرة لكن .. وقاطعت كلماتها الخجولة بان اخرجت كرتي من حقيبتي وناولتها اياه " حاكون سعيدة اتواصل معاك يا بدور .. دة كرتي فيه الموبايل وتلفون البيت والعيادة اتصلي بي في أي وقت "
في تلك الليلة وبعد ان اغلقت عيادتي مبكرة عدت الي منزلي الكبير الفارغ .. احسست بوحدة قاتلة .. مصطفى ما زال في عيادته التي يرجع منها قبل منتصف الليل بقليل .. جلست في غرفتي افكر في بدور وما حركته داخلي من ذكريات اثارت شجوني .. كانت بداخلي حسرة وغيرة لم استطع انكارهما .. حسرة الاطفال الذين كانوا حلمي وهاجسي وغيرة من بدور التي حصلت على ما لم احصل عليه من زوجي مصطفى .. مر في راسي شريط لقائي به .. عندما ربط الحب قلبينا كنت في سنتي الثالثة وهو في سنته الاخيرة .. عند تخرجي كان يستعد للسفر الى ادنبرة لبدء تخصصه .. تزوجنا وسافرنا معا اخترت امراض النساء بينما تخصص مصطفى في جراحة المخ والاعصاب .. مرت السنوات ما بين المذاكرة واللهو والتجول في دول اوربا اثناء الاجازات .. عدنا الى السودان ليواجهنا سؤال لم نطرحه على انفسنا في غمرة انشغالنا " لماذا لم ننجب بعد ؟؟ " وبدات رحلة طويلة استمرت ثلاث سنوات اخرى قبل ان يعلن الاطباء عجزهم امام حالتنا الغريبة .. فكلانا لا نعاني من أي موانع انجاب .. كل التحاليل والفحوصات في اكبر المستشفيات اكدت اهليتنا لانجاب الاطفال ولكن ارادة رب العالمين فوق كل اعتبار .. فتقبلنا قدرنا ولكن هناك شئ ما اختفى .. اصاب الفتور حياتنا.. وتدريجيا اختفت كل الروابط المشتركة واصبح كل منا يتظاهر بالانشغال في عمله حتى يبرر البرود والتوتر الذي اصاب علاقتنا .. ومنذ تسعة اشهر تحجج مصطفى بحاجته الى السهر لاجراء البحوث والدراسات الخاصة بعمله وحرصه على عدم ازعاجي لينتقل الى غرفة اخرى .. اصبحنا كالاغراب يجمعنا سقف واحد .. نلتقي احيانا في مواعيد الوجبات لنخوض في نقاش طبي جاف .. اما الحياة الخاصة فقد اصبحت شبه معدومة .. وكأن عدم امكانية الانجاب قد قتلت كل رغباتنا واحاسيسنا .. اصبح ما يجمعنا علاقة صداقة اكثر منها زواج .. بالنسبة للعالم الخارجي .. نحن الثنائي الذهبي .. حياتنا مثالية .. عملنا ناجحاً ومثار حسد حتى مع عدم وجود الاطفال ... ما اكثر ما تستره الجدران وراءها ...
تاني اتصال بدور بعد ثلاثة ايام من لقاءنا وهي تدعوني لزيارتها انا وزوجي والتعرف على اسرتها .. اعتذر مصطفى بدواعي الانشغال فذهبت وحدي .. كان بيتها جميلا وفسيحاً مفروش بذوق رفيع .. استقبلتني بدور بالاحضان ومن وراءها خمسة وجوه تشع بالصحة والشقاوة .. احتضنتهم بلهفة وانا اعطيهم الهدايا التي احضرتها معي وسط احتجاجات بدور " ليه تعبتي نفسك يا صفاء والله ما في داعي للعملتيه دة " .. كنت افكر باحساس امراة محرومة وانا اتاملهم وارد على بدور " تعب شنو يا شيخة دي حاجة بسيطة شديد " كنت اهم بتقديم اعتذاري لعدم حضور مصطفى .. وانا ارفع كاس العصير عندما اتاني الصوت العميق مرحباً .. فرفعت راسي لتصطدم عيناي بوجه حاد القسمات بوسامة ملحوظة .. قوام ملئ بالرجولة .. اناقة مترفة تتناسب مع القوام الجميل .. رائحة عطر منعش .. تهللت اسارير بدور وهبت باحترام وهي تخاطب زوجها " تعال يا عز سلم على الدكتورة صفاء "مد يده القوية ليغوص كفي الرقيق في دفئها .. وبابتسامة عريضة كشفت عن اسنان بيضاء تتوسطها فلجة صغيرة زادته وسامة ... رحب بي " اهلا يا دكتورة .. نورتينا .. تعرفي بدور ليها ثلاثة يوم ما ليها سيرة غيرك وخلتنا كلنا متشوقين نشوفك" البيت منور بوجودكم يا باشمهندس .. قاطعتنا بدور بمرح " هي انتو شنو دكتورة وباشمهندس ... صفاء وعز وبس " وجلس عز بجانب بدور في مواجهتي وحولهما الصغار الفرحين .. كنت انظر اليهم وافكر بان هذه هي العائلة الحقيقية وليست الكذبة التي اعيشها انا ويصدقها الاخرون بكل غباء .
ي زمن قياسي تطورت علاقتي ببدور واسرتها .. دعوتهم لزيارتي والححت على مصطفى تاجيل كل مواعيده لمقابلة عز الدين .. ثم ذهب معي مجبرا لزيارة اخرى قبل ان يعلن انه لا يملك الوقت ولا الرغبة في تكرار الزيارات وطلب مني ان اذهب اليهم او ادعوهم بمفردي .. وهكذا اصبحت ضيفا دائما في بيت بدور .. اهرب من عملي المضني الى بيتها الآمن المشع دفئا كلما سنحت لي الفرصة .. اذهب بلا مواعيد وفي أي وقت لاجد الترحيب .. صحبة الاطفال .. ورفقة عز .. لقد اعتدنا الجلوس سويا لنناقش مختلف امور الحياة .. كان رجلا مثقفا واسع الاطلاع وملما بكل ما يدور حوله فكنا دوما نجد مواضيع مشتركة وقضايا تهمنا .. نتحاور بهدوء وسلاسة بينما بدور في المطبخ تعد الطعام او تشرف على مذاكرة اطفالها وطلباتهم التي لا تنتهي .. كان هذا محيطها الذي تعيشه بلا تذمر وبكل رضا وتجهل أي شئ يحدث خارجه لذلك اصبحت حواراتي مع عز مربكة لها فاعتادت ان تنسحب معتذرة حالما يبدا النقاش وتختفي لتتركني مع عز .. احيانا تاتينا ضحكاتها من المطبخ عندما ترتفع حرارة النقاش ويتمسك كل منا برايه وهي تطلب من زوجها ان يترفق بي ...
رويدا رويدا لم تعد لقاءات المنزل تكفي لنقاشاتنا الطويلة .. فاعطينا انفسنا حق التواصل الهاتفي في اوقات مختلفة بحجة انهاء حوار او بدء آخر جديد .. كان الليل هو الوقت المفضل عندما انزوي مع وحدتي في غرفتي ويكون عز متفرغا خصوصا وان بدور اعتادت النوم مبكرة بعد ارهاق النهار المتواصل مع اطفالهما .. وتدريجيا انحرفت النقاشات الجادة الى التعابير الناعمة التي تقال همساً وتدغدغ الحواس .. كان اطراءوه لجمالي وقوامي يجعلني احلق عاليا .. وبدا لي كأن قرونا قد مضت منذ ان لاحظ مصطفى جمال جسدي الذي لم يزد الا بضعة كيلوجرامات منذ ان تزوجت .. زيادة اضافت اليه استدارات انثوية مغرية .. وملامح وجهي الدقيقة زادتها السنين جمالا ناضجاً وهاجاً .. كنت استمع الى تعليقات عز بجوع غريب .. وتلتقطها اذناي بلهفة من عانى الحرمان .. واتقبلها بسعادة وامتنان .. ثم تدرج الحديث الى التفاصيل الحميمة في الحياة الزوجية فتفاقم الجوع .. وانفجر الحرمان .. قللت من زياراتي لمنزل بدور خوفا من ان تلمح في عيوني ما اخفيه عنها .. كانت حجتي مقنعة .. ازداد عدد المترددات لعيادتي الفخمة وكثرت اشغالي .. اصدقكم القول .. لقد حاولت جاهدة ان لا اسقط في هذا المستنقع النتن فطلبت من عز ان نتوقف عن الاتصال الليلي الذي يهيج الشجون ويضعف الارادة .. ودست على كرامتي المهدورة برفض مصطفى مشاركتي السرير وذهبت اليه ارجوه ان يعود الى غرفتنا واخبرته بصراحة اني احس بالوحدة والوحشة .. لكنه رفض بكل تهذيب " يا صفاء احنا الاتنين اتعودنا على الغرف المنفصلة .. ما في داعي نكذب على بعض وندعّي اننا ممكن نعيش بغير الوضع الحالي .. خلاص فات الاوان احنا هسة قريب سنة من ما انفصلنا ولينا تقريبا اربعة شهور ما عشنا علاقة زوجية .. املي وقتك باي شئ عشان ما تحسي بالوحدة .. آسف يا صفاء انا عارف اني ممكن اكون ظالمك معاي لكن فعلا فات الاوان عشان نصلح أي شئ "
تركني اعاني لوعة حاجتي لغطاء يبعد عني برد الوحدة .. وحبل اتمسك به حتى لا اسقط في مستقع الخيانة .. في تلك الليلة كنت انا من بادر الاتصال بعز وعشت معه على الهاتف ما رفضه زوجي وحرمني منه بكل صلف .. ساعات وساعات تكلمنا فيها بلا انقطاع الا انقطاع النفس في لحظة يصعب وصفها .. كانت حصيلة تلك الليلة انهيار الحواجز وازدياد احساس الجوع والاحتياج ... سافر مصطفى الى مؤتمر خارج السودان فدعوت بدور واطفالها لقضاء يوم كامل معي في محاولة مني لطمس شكوكها عن اسباب انقطاعي المفاجئ لزيارة بيتها .. كان يوما مليئا بالتوجس وفي نهايته وصلت اعصابي الى حافة الانهيار .. برغم ان بدور كانت غافلة تماما عما يدور بيني وبين زوجها .. الا ان الشعور بالذنب كان يصّور لي كل لفتة او نظرة او كلمة منها على انها رسالة سرية تستعديني بها على ضميري النائم .. قمت بايصالهم الى المنزل حتى لا ياتي عز ونلتقي جميعا في مكان واحد .. بعدها بعدة ايام دعتني بدور لقضاء الامسية فذهبت بعد ان طالبت عز بالغياب لاي عذر .. فلبى طلبي مسرورا .. وهكذا بتنا نتفادى اللقاء المشترك حتى لا تفضحنا النظرات وتشي بما نحاول جاهدين ان نكتمه .. قبل التاريخ المحدد لعودة مصطفى بيوم .. دعتني بدور للغداء في بيتها فرفضت بحجة رغبتي في الاستعداد لعودة زوجي من السفر .. كنت يومها قد دعوت عز للغداء .. صرفت الخدم لضمان عدم تسرب حضور رجل غريب الى البيت .. اعددت الاكل الذي يحبه عز بنفسي .. لبست اجمل قمصاني .. وتعطرت باغلى عطوري .. تركت شعري منسدلا على كتفي .. وتركت الباب موارباً
اتى قبل الموعد المحدد تسبقه لهفته العارمة لهذا اللقاء الذي حاول كلانا تجنبه فغلبنا شوقنا بعد ان غذته المكالمات الليلية الحارة بقوة لم نعد نستطيع صدها .. عندما دخل بخطواته المصممة .. تلاشت آخر افكار التعقل التي كنت اهمسها لنفسي قبل قليل .. اخذني بين ذراعيه وطبع قبلة طويلة عميقة على شفتي المرتعشتين .. فنسينا كل شئ وغبنا عن العالم .. لا ادري كم مر من الوقت ثواني ؟؟ دقائق ؟؟ ساعات ؟؟ كنا غارقين في احضان بعضنا على الكنبة الطويلة في الصالة .. رفعت راسي اثر سماعي لشهقة قوية أتتني كانها حشرجة انسان يحتضر .. في مواجهتي وقفت بدور بوجه مذهول غارق في الدموع .. تجمدت حركاتي وانحبس صوتي .. تمنيت الموت في تلك اللحظة ... رفع عز راسه ليرى سبب عدم تجاوبي مع حركاته المحمومة .. انتفض بفزع وصرخ " بدور الجابك هنا شنو ؟؟" ردت بصوت من اعتادت الاجابة على اسئلة زوجها الذي تعبده ... " جيت .. جيت .. جيت اسوق صفاء تتغدى معانا .. كنت .. كنت .. كنت عاوزة اعلمها ليها مفاجاة .. انا دقيت الباب لكن لقيته مفتوح " يبدو ان لهفة عز على لقائي انسته اغلاق الباب الذي تركته له مفتوحاً .. كانت بدور تنقل نظراتها الذاهلة بيننا .. شهقاتها مليئة بالرعب والالم وعندما نطقت اتت كلماتها متقطعة .. متلعثمة .. " صفاء ؟؟ انتي بتعملي شنو مع عز ؟؟ .. عز ؟؟ انت بتسوي شنو مع صفاء ؟؟ " بدات تبكي بهستريا .. وفجاة ارتفعت ضحكاتها المجلجلة .. ثم انخرطت في بكاء مرير سقطت بعده على الارض بلا حراك ... اصيبت بدور بلوثة عقلية ادخلت على اثرها مصح للامراض النفسية .. انا اغلقت عيادتي وهربت الى ادنبرة بحجة تحضير الماجستير والدكتوراه .. اعيش وحيدة ترافقني فقط ذكرى وجه بدور الباكي وصوت ضحكاتها المتالمة الغريبة قبل دخولها الى عالم كنت انا من فتح بابه .. لم اعاود الاتصال بعز منذ ان نقل زوجته من ارض بيتي الى المستشفى ... تركته وحيدا يواجه التساؤلات عن اسباب ما حدث لزوجته .. ويواجه نظرات اطفاله .. هربت وانا احمل معي اوزار خيانتي ...
***************************************************************************
قصاصة سرية من دفتر يوميات فتاة مهاجرة
________________________
الأحد 20 ديسمبر الساعة العاشرة صباحاً ... اليوم أبتدأ موسم الإجازات .. كل ما حولي ملئ بالصمت والبياض .. الثلوج تتساقط بلا انقطاع منذ ثلاثة أيام .. وتراكمت تلال منها أمام النوافذ فحجبت الرؤية ومنعتني من الخروج ... لكن فكرة البقاء حبيسة داخل جدران شقتي الضيقة تكاد تصيبني بالجنون ... الإحساس بالوحدة يحبس انفاسي ويملاني بالخوف من مجهول لا أستطيع تحديده .. ولكن ماذا افعل ؟؟ اقرا ؟؟ مللت القراءة .. هل أعود إلى النوم ؟؟ لا أستطيع فقد نمت ما يكفيني لأسبوع كامل .. هل أعيد تنظيف المنزل الذي أعدته بالأمس ؟؟ ربما يكون الحل في مشاهدة فلم جيد مع كوب نسكافيه حار وساندويتش .. أدرت جهاز التلفزيون و تقرفصت في الكنبة الصغيرة أمامه .. تنقلت بين القنوات ابحث عن شئ يستحق المشاهدة .. كل البرامج مملة .. حديث لا ينتهي عن مشاكل المجتمع الأمريكي الكريه ... برامج أخرى تفوح منها رائحة العفونة .. أفلام معادة ... قررت أن أتحول إلى القمر العربي حتى اسمع لغة افتقدها في تعاملي اليومي هنا .. يبدو ان العرب لم تعد لديهم هموم او مشاكل .. فكل القنوات غناء ورقص وبرامج مسابقات وهمية .. ظللت ابحث عن تلفزيون السودان لكنني لم أجده .. اين ذهب ؟؟ لماذا اختفى وانا في اشد الحوجة اليه ؟؟ برغم بكائي المستمر عند مشاهدة قناة السودان إلا انها تظل عزاء لي في غربتي الاختيارية ... قطعة من وطني تمدني بجرعات من الحنين ..مشاهدة الوجوه الكالحة المتعبة والشوارع المليئة بالغبار تهديني ذكريات صارت بعيدة .. كبعد المسافة بين الخرطوم ونيويورك حيث أقيم منذ ثلاث سنوات .. كلما عصرتني الوحدة بين فكيها .. ارجع إلى الوراء و أتذكر فرحتي باللوتري التي تابعت التقديم اليها باصرار عنيد ولمدة خمس سنوات متتالية منذ ان تخرجت من الجامعة وطوال فترة عملي كمحامية .. وقتها كان الهروب من السودان هاجسي الذي يلازمني ليل ونهار .. كنت اراه سجناً يقوّض احلامي في الانطلاق الى العالم الاول حيث الحياة افضل .. وبين انتظار اللوتري والعمل الدؤوب في احد مكاتب المحاماة المشهورة .. امتلكت حياة اجتماعية ثرية عشتها حتى العمق مع صديقاتي المقربات .. نتبادل الزيارات .. نلهو .. نتناقش .. حتى مشاكل المحاكم استمتعت بها .. لم يكن ينغص علي وقتها سوى سخرية صديقاتي المتواصلة من رغبتي بالهجرة .. يا بت انتي مجنونة ؟؟ هجرة شنو العاوزة تهاجريها ؟؟ وبراكي كمان ؟؟ لو حتعرسي وتمشي مع راجلك معليش .. لكن امريكا وبراك ؟؟ دي صعبة شديد " كنت ارد عليهم بفوقية غزاها طموحي وايماني بحلمي المشروع " انتو بنات تفكيركم محدود وما عندكم طموح .. الظاهر عليكم عاجباكم الدفنة الاحنا فيها دي .. المرتبات الكحيانة الما بتقضينا لربع الشهر .. ظروف الحياة الصعبة .. الجو الزفت .. حتى جو السودان يعكر الدم .. الشتا يجى كم يوم ويمشي وباقي السنة كلها حر وتراب .. عمركم سمعتوا بكتاحة في امريكا ؟؟ .. ولا الكهرباء قطعت ولا الموية نزلت من المواسير طين ؟؟ عمركم سمعتوا بازمة مواصلات ولا ملاريا ؟؟ يا بنات افهموني .. انا ما مهاجرة عشان الم قروش وكلام زي دة .. انا عاوزة نوعية حياة معينة ما بتتوفر في الســودان حتى لو عندي قــروش .. ما سمعتــوا بحاجة اسمهــا ( كواليتي اوف لايف ) ؟؟ ودوما تاتيني نفس الردود المحتجة الغاضبة " يا بت هي .. والله انتي ما في شئ حيغطس حجرك غير فلسفتك الفارغة دي .. بلا كواليتي اوف لايف بلا كلام فارغ .. مالها حياتنا ؟؟ ما هو احنا عايشين زي العجب .. وقبلنا اهلنا عاشوا وقبلهم اهلهم .. لا سمعنا زول مات من الحر ولا اتخنق من التراب .. يا وصال يا اختي السودان دة مافي زيه .. السودان دة بلد المحنة والناس الحلوين .. بلد اللمة يا بت بلدنا دي سمحة بترابها وحّرها ومطرتها .. بكرة لو مشيتي بلد السجم والرماد ديك بتعرفي قيمتها وتندمي على انك فارقتيها " كنت اهزا بالاحتجاجات ولا اوليها أي اهتمام .. عند وصول الظرف الابيض المنتفخ على عنواني البريدي اقمت حفل فرح داخل قلبي المتلهف للرحيل .. وبدات المرحلة الاصعب الا وهي اقناع الاهل بالموافقة على سفري والبقاء هناك وحيدة .. كانت فترة عصيبة احسست وكانني في قاعة محكمة مع قاضي صعب المرآس .. وانني ادافع عن قضية عمري .. ذرفت الكثير من الدموع .. واستخدمت كافة الحجج التي تدعم موقفي .. اخيرا كسبت القضية .. اكملت الاجراءات وجئت الى هنا ترافقني آمالي وطموحاتي ... دعاء ابي وخوف امي ..
قبل وصولي اتصل ابي بابن عمتي الذي يقيم هناك منذ ستةعوام ويحمل الجواز الامريكي بعد ان تزوج بامريكية تكبره بعشرة اعوام لقاء مبلغ معين يسدده عقب الحصول على الجواز .. لكن لاسباب غير مفهومة اختار ان يبقى معها وانتج زواجهما طفلين ... اتى لاستقبالي في المطار وهو يحمل فتاة في الثانية من عمرها وصبي في الخامسة.. يحملان لون البن المحروق بملامح افريقية صرفة .. رحب بي واخذني الى منزله حيث الزوجة الغائبة في عملها معظم اليوم .. بينما تفرغ ابن عمتي العزيز لرعاية المنزل والاهتمام بالاطفال .. عندما سالته عن تفسير لهذا الوضع المقلوب اجابني بانه حاول الحصول على عمل اكثر من مرة ليكتشف ان راتبه لا يساوى شيئا امام راتب زوجته الكبير .. لذلك قرر ان يعكس آية القوامة لتكون زوجته هي المتحكمة بسير الامور في المنزل .. بعد اسبوع من وصولي ... اتاني ابن عمتي معتذرا بصوت هامس خجل .. وهو يبلغني رغبة زوجته في رحيلي ونظراته تتفادى الالتقاء بعيوني " معليش يا وصال .. انتي اكيد عارفة الناس ديل ما زينا وما بيعرفوا المجاملة كتير .. كل شئ عندهم بحساب .. وانتي شايفة وضعي انا ما شغال والا كنت ساعدتك .. الشئ الوحيد القدرت اعمله ليك اني دبرت ليك سكن مع بنات سودانيات لغاية ما تعرفي راسك من رجليك .. وبكرة الصباح حاوديك .. في تلك الليلة سمعت جدالهما حول الارباك الذي سببه وحودي لدى الاطفال عندما لمحوني وانا اصلي .. فسالوا الاب الذي شرح لهم معنى الصلاة .. فسالوا الام عن معنى حركاتي الغريبة التي تختلف عن الصلاة المعروفة لديهم .. وبما ان الام المسيحية لم تخبر اطفالها شيئا عن الاسلام فقد صعب عليها شرح الامر على حقيقته .. فاخبرتهم بان والدهم اخطا فهم حركاتي وانها نوع من الرياضة التي اؤديها للمحافظة على وزني ؟؟!! آهـ نسيت ان اخبركم بان الام القوية بمالها وجوازها وسلطة بلدها تاخد الاطفال الى الكنيسة كل احد تحت سمع وبصر الاب الذي اعماه لون الجواز الامريكي الداكن ولون الدولار الاخضر عن رؤية ما يدور حوله ..
ي الصباح وعندما كان يساعدني في رفع شنطتي الوحيدة الى السيارة خاطبني وهو ينظر الى الارض " وصال عاوز اطلب منك طلب .. لو سمحتي ما تقولي لزول في السودان انو الاودي بيمشوا الكنيسة " نظرت اليه برثاء " ما تخاف من ناس السودان يا ولد عمتي .. خاف من الخلق ناس السودان " بعدها ساد الصمت الثقيل حتى وصلنا الى مقر سكني الجديد .. كانت الشقة الضيقة في احد الاحياء القذرة التي يقطنها الزنوج .. تتكون من غرفة يتيمة ملحق بها مطبخ مفتوح وحمام صغير بالكاد يتسع لشخص واحد نحيل .. شريطة ان تظل يداه مضمومتان الى جانب جسده مخافة الاصطدام بالحائط لو رفعها ... احسست بالصدمة وشعرت بالحسرة على بيتنا الفسيح والحمام الذي يسع عشرة اشخاص سوياً ..كنا ثلاث فتيات في نفس العمر تقريباً بفارق شهور قليلة زيادة او نقصاً هن اقدم مني بسنتين وكلتاهما جامعيات .. واحدة تعمل بائعة في سوبر ماركت .. والاخرى نادلة في مطعم .. لحظتها فقط احسست بالخوف مما ينتظرني .. وبرغم انشغالهن الدائم الا انهن تطوعن بمساعدتي في الانتهاء من اجراءات التقديم للحصول على الكرت الاخضر .. أصابتني الدهشة من عدد السودانيين الموجودين هناك .. شباب من نفس الفئة العمرية تقريباً .. سالت نفسي من بقى من هذا الجيل في السودان ؟؟!! .. بدات رحلة البحث عن عمل .. كل ما حصلت عليه اعمال وضيعة وبراتب قليل .. يبدو ان ارباب العمل قد اتفقوا على استغلال من هم امثالنا لعلمهم بحاجتنا الماسة الى العمل .. اصابني الاحباط فسالت رفيقات السكن .. " طيب وشهادة الجامعة ؟؟ " واتاني الرد مريراً "بليها واشربي مويتها " ..
بعد شهر من وصولي ... حصلت على عمل في احدى المكتبات .. انحصرت مهمتي في اعادة الكتب الى اماكنها بعد انتهاء وقت دوام المكتبة .. وتسلمت اول راتب لي .. 200 دولار اسبوعياً كدت اطير فرحاً وبسرعة اجريت العملية الحسابية المعتادة .. كم قيمة راتبي بالجنيه السوداني ؟؟ وملاني الزهو عندما اكتشفت ان راتب اسبوع هنا يساوي راتب شهر في السودان .. ونسيت للحظة انني اعيش هنا وليس هناك ... الاثنين 21 ديسمبر الساعة الخامسة صباحاً .. خاصمني النوم منذ امس بعد ان سمعت طلقات رصاص متبادلة اعقبها صراخ متالم ثم صمت يوحي بما يحمل .. علمتني التجارب ان اهزم فضولي لمعرفة ما يحدث خارجاً .. فقد يكون الموت هو ثمن فضولي الغير مرغوب فيه .. احس بوحدة رهيبة .. يكاد صدري ينطبق .. انتقل صقيع الخارج الى اعماقي .. التصق لساني بسقف حلقي احتجاجاً على الصمت الذي يلف عالمي منذ يومين .. يا لها من بلد .. جلست امام جهاز التلفزيون الملئ بترنيمات اعياد الميلاد وهو ينقل لي صورة بشر يبتسمون بحبور .. وبدات ابكي وحدتي ووحشتي .. ابكي غبائي الذي جعلني اتخلى عن عالمي الدافئ واسعى وراء سراب حياة افضل .. طموحي الذي حرمني من اهلي وصديقاتي .. هنا لا توجد صداقة .. الكل يركض وراء عمله في محاولة لجمع اكبر كمية من الدولارات .. هنا الدولار هو صديقك وشقيقك .. وكل عائلتك ... هنا قد تصبح جثتك هيكل عظمي قبل ان يكتشف احد موتك .. زادتني هذه الافكار كآبة واستسلمت لنحيب عال وانا اتذكر سخرية صديقاتي في السودان " وصال يا اختي السودان دة مافي زيه .. السودان دة بلد المحنة والناس الحلوين .. بلد اللمة ... يا بت بلدنا دي سمحة بترابها وحرّها ومطرتها .. بكرة لو مشيتي بلد السجم والرماد ديك بتعرفي قيمتها وتندمي على انك فارقتيها " .. يا الهي انه ندم مرّ وحارق ..
لاربعاء 23 ديسمبر .. الساعة الثانية عشرة ظهراً ... قررت الخروج من المنزل حتى لو غرقت في الثلج .. لم اعد استطيع التحمل احتاج الى رؤية كائنات حية تتكلم وتمشي وتضحك او حتى تبكي .. احتاج الى سماع اصوات غير تلك الالية التي تاتيني من التلفزيون الممل .. احتاج الى رفقة بشر ... كم اكره موسم الاجازات في هذا البلد الجاف لانه يعني انقطاع تواصلي مع العالم الخارجي خصوصا في فصل الشتاء الكئيب حين يلبس الكون كله حلة بيضاء باردة تغطي كل شئ الشوارع ممتلئة بشتى اصناف البشر فغداً يوافق الكريسماس .. كنت انظر بلهفة الى العيون اللامعة والضحكات المتبادلة .. في كل ركن يقف رجل ممتلئ الجسد مرتديا زي بابانويل بلونه الاحمر المميز .. يحمل جرساً صغيرا يقرعه بحماس .. امامه سلة نصف ممتلئة بعطايا المارين .. نساء ورجال يسيرون بحبور .. احسست بالغيرة والحسرة لوحدتي وظللت اسير بلا هدف بحثا عن مكان يؤوي احساسي المتجمد ويبدد ظلام الوحشة من داخلي .. نظرت حولي الى المطاعم والمحلات التي تفننت في تزيين واجهاتها باللونين الاحمر والاخضر .. ليست لي رغبة بالاكل ولا الشراء .. فتابعت طريقي حتى كلت قدماي اخيراً وجدت مكانا مليئا بالبشر والاصوات .. دخلت وجلست .. وبدات الترانيم ... نعم لقد دخلت الكنيسة لاحس بامان الرفقة ودبيب الحياة
الخميس 31 ديسمبر الساعة الحادية عشرة مساء ... انها ليلة راس السنة ... كنت قد قررت ان لا اقضي هذه الليلة وحيدة مهما كلفني الامر .. اريد رفقة تعينني على نسيان مرارة الايام التي مضت .. وتعطيني القوة لمواجهة الايام القادمات .. احسست بالحزن والاسف لان أي من السودانيين الذين اعرفهم لم يوجه لي دعوة لقضاء الامسية والاحتفال بهذه الليلة .. البنات كل تريد ان تقضي ليلتها مع زوجها او صديقها .. والرجال ليست لديهم مساحة لمخلوقة متحفظة ترفض دخول البارات او الديسكوهات .. ترفض العلاقات السريعة في المقاعد الخلفية للسيارات .. فتاة ما زالت تملك القدرة على قول كلمة لا .. في نظر الكثيرين انا مخلوقة معقدة وجاهلة بمتطلبات الحياة في امريكا .. بمعنى آخر مخلوقة منبوذة .. لم يعد يهمني مع من اكون .. فقط ارفض ان ابقى وحيدة هذه الليلة ايضاً لذلك قررت قبول دعوة هارولد زميلي في العمل فقد كان ودوداً ويعاملني باحترام كبير .. اعتدنا ان نحتسي القهوة سويا اثناء وقت الاستراحة من العمل .. واحيانا نتناول الوجبات في المطعم القريب من المكتبة .. وجدت في صداقته المتمهلة المراعية ما كنت افتقده .. سوف نذهب الى العشاء في احد المطاعم الصغيرة بعدها الى اكبر ميادين نيويورك حيث وضعت لوحة تحمل ساعة ضخمة لبدء العد التنازلي للعام الجديد ..
لجمعة الاول من يناير الساعة الثانية بعد الظهر ... استيقظت من النوم على صدى انفاس ناعمة تحفر طريقها داخل اذني نظرت برعب الى وجه هارولد النائم بسكون على كتفي ويده تحيطني بحنان .. كان عقلي مشوشاً ماذا حدث ؟؟ كلانا نرتدي ملابسنا كاملة اشعرني هذا بقليل من الراحة .. ولكن كيف وصلنا الى هنا .. كان هناك عرق في مقدمة راسي ينبض بجنون .. وتذكرت انني احتسيت ثلاث زجاجات بيرة تحت الحاح هارولد ورغبتي في اظهار تفتحي وعصريتي لرفيقي حتى لا اخسر وجوده .. بينما تتصارع الافكار في راسي المتالم فتح هارولد عينان رماديتنان ونظر الى بابتسامة برئية وهو يرى علامات القلق والانزعاج في ملامحي المتشنجة ... Good morning wisal .. happy new year صباح الخير يا وصال ... سنة جديدة سعيدة It was really nice evening .. I enjoy it so much كانت امسية جميلة وقد استمتعت بها الى اقصى حد Don't worry , no thing happen between us .. you was so dizzy after the beer so I brought you home .. you asked me to stay coz you feel lonely and afraid to be alone , I stayed and we just fell asleep in each other arms .. I respect you wisal .. I will never do any thing without your permission or desire ..but I think from now on our relationship will be different and we are ready to go to the next step .. I will give you all the time you need . ما من داع للقلق .. لم يحدث شئ بيننا .. لقد أصبت بالدوار بعد احتساء البيرة فأحضرتك للمنزل .. طلبت مني البقاء معك لانك كنتي تشعرين بالوحدة وخفت من البقاء بمفردك .. كل ما حدث اننا غرقنا في النوم معا .. انا اكنّ لك الاحترام يا وصال ولن افعل أي شئ بدون اذنك ورغبتك .. لكن اعتقد ان علاقتنا سوف تتغير من الان وصاعدا .. كلانا مستعد للانتقال للخطوة التالية .. سوف اعطيك الوقت اللازم لتقرري ما تريدين لقد قررت ما اريد .. يبدو ان السقوط في بئر الانفلات لا يحتاج الى اكثر من ثلاث زجاجات بيرة .. واحساس مرير بالوحدة .. خوف من الصمت .. ورغبة بالكلام ... بعد خروج هارولد جلست افكر فيما وصلت اليه .. وما كان يمكن ان يحدث .. تذكرت تعليقات الفتيات اللائي كنت انتقد تصرفاتهن بالعيش مع أصدقائهم دون رباط شرعي .. ومصادقة الامريكان والاجناس الاخرى .. تذكرت سخرية فاطمة الفتاة المتعلمة التي تعيش مع صديقها الزنجي بلا زواج " انتي لسة جديدة وما عارفة الوضع في البلد دي كيف .. لمن تقعدي كم سنة وما تلقي انسان يتزوجك حتعرفي احنا ليه عملنا كدة .. يا وصال في البداية كلنا كنا زيك .. لكن لقينا اننا يا نمشي مع التيار أو نرجع السودان .. المسالة اختيار وكل انسان بيختار حسب ظروفه " لقد اخترت .. نهضت بهدوء .. لملمت ثيابي في شنطة صغيرة .. فتحت باب بيتي وخرجت منه دون ان اغلقه ..عبأت صدري بالهواء البارد حتى أحسست بحرقة في رئتي ... ركبت سيارة الاجرة واتجهت الى المطار .. قطعت تذكرة اتجاه واحد الى الخرطوم .. قبل الإقلاع رميت الكرت الاخضر في اقرب سلة زبالة .. عندما وصلت مطار الخرطوم مزقت الجواز المؤقت بلونه الابيض .. وطلبت حق اللجوء الى بلدي ...
****************************************************************************
قصاصة من دفتر يوميات قاتلة
________________
احيانا تصبح الحياة نفسها سجن كبير ملئ بالقيود والقضبان .. الكل فيها يلعب دور السجين والسجان ... لكنها برغم قسوتها لا تهيئك ابداً للسجن الحقيقي .. هذا العالم الغريب الغامض اصعب شئ في سجن النساء ان تكون المسجونة صغيرة السن .. وتزداد الصعوبة اذا اقترن صغر السن مع الجمال ... ويصبح الوضع مستحيلاً اذا كانت التهمة هي القتل ... نعم انا قاتلة ... لقد قتلت اقرب الناس لي ... قتلت زوجي ... قتلته في لحظة خوف وغضب وبلا سابق تصميم .. قتلته كي احمي من هم اعزّ منه .. ربما يجب ان اقص عليكم قصتي من البداية حتى تتفهموا دوافعي وتجدوا لي العذر فيما فعلت .. فنحن ابناء ماضينا الذي نرثه من ماضي من سبقونا .. ليصبح حاضرنا في النهاية سلسلة متصلة لا نستطيع ان نفرق بين اولها وآخرها ... انها بداية بعيدة .. قبل وجودي بزمن طويل .. سابدا من ابي الصول مامون .. هذا الرجل المربوع الذي يحمل لون الليل مع شعر اجعد وانف افطس .. وبرغم شكله البعيد عن الوسامة الا انه كان محبوبا لظرفه ولطافة حديثه .. خفة دمه واجادته القاء النكات .. مما جعل كبار الضباط يستدعونه في مكاتبهم عندما تكون حركة القسم هادئة لسماع آخر الاخبار والطرائف .. بصفة عامة كان مقبولا من الجميع الا عندما ياتي الى العمل صباحا وهو ما زال يحمل آثار الخمر الذي احتساه طيلة ليل امس .. وبرغم ذلك تقبل الجميع عذره بانها سلوته الوحيدة في وحدته خصوصا بعد وصوله سن الاربعين بلا زواج بسبب تحمله مسئولية امه واخواته البنات عقب وفاة ابيه .. بعد زواج البنات توفيت الام فبقى يساكن وحدته وخمره .. ويبحث عن زوجة ترضى بعيوبه وفقره.. عندما راى امي لاول مرة قال لاصدقائه في القسم " انا حاعرس البت دي " وضحك الجميع على طرفة الصول مامون وظنه البعض ما زال يعاني من آثار العرقي الذي احتساه بكميات كبيرة وبدت آثاره في رائحة انفاسه وطريقة مشيه وكلامه.. رد عليه عليه احدهم هازئاً " يا مامون انت لسة سكران ولا شنو ؟؟ .. يا راجل اخجل دي شافعة صغيرة ولو كنت عرست زمان كان بناتك اكبر منها " لم يهتم بتعليقاتهم وكرر جملته باصرار غريب " انا حاعرس البت دي "
وبالفعل كانت امي طفلة صغيرة طلعت فجاة من عالمها البرئ لتدخل عالم الكبار المعقد .. في سن الثامنة عشرة كان كل ما فيها ناعماً وصغيراً .. شعرها البني الفاتح .. جسدها النحيل وبشرتها القمحية .. بائعة الشاي الجديدة التي اتخذت مكانها تحت شجرة النيم المواجهة للقسم الجنوبي بالخرطوم .. كانت تحمل كل ملامح العرب الذين نزحوا من مناطقهم بعد ان ضربها الجفاف وقتل الزرع والضرع والبشر بما فيهم والدتها التي لم تتحمل مشقة الطريق فماتت هي ورضيعها فتركوا جثثهم مع العشرات غيرها في الطريق ليدفنوا في بطون العقبان الرابضة بصبر تنتظر سكون حركة الاجساد الواهنة حتى تبدا انقضاضها ... حمل ابوها احدى شقيقتها على ظهره المحني بينما استندت الاخري عليها .. اما الولد المراهق فقد تحامل على نفسه وجر قدميه حتى وصل الجميع الى المعسكر الذي اقامته الحكومة على عجل ليؤوي الفارين من الموت جوعاً ... لم يكن الحال في المعسكر افضل بكثير من القرية .. وبعد شهرين قرر الولد الوحيد ان يتجه الى العاصمة بعد ان سمع بتوفر فرص العمل ونوعية الحياة هناك .. فتسلل الى احد اللواري التي تحمل مواد الاغاثة بعد ان ودع اسرته المتعبة ووعدهم بان يعود لاخذهم حالما يحصل على عمل ... مرّ عام كامل قبل ان يستطيع العودة ليجد ان الاب الضعيف قد فارق الحياة تبعته الابنة الصغرى .. ولم يبق من اسرته غير " الرضية " الاخت الكبرى وأم كلثوم التي تصغرها بسنتين .. بعد رحلة محفوفة بالخطر والجوع والتعب وصلوا الى اطراف العاصمة واستقروا في احدى البيوت العشوائية المبنية من الكرتون وبقايا صفيح وقش .. وبدات رحلة البحث عن عمل .. عوض الذي اصبح رجلاً قبل الاوان عمل بائع ماء في سوق السجانة .. كلتوم ابنة السادسة عشرة اصبحت خادمة باليومية في بيوت الخرطوم الكسولة .. بينما بقيت الرضية للاهتمام بالعشة ومحاولة تدبير حياتهم حسب ما ياتي به اشقاءها في نهاية اليوم .. أتت فكرة عمل الرضية اثناء نقاش دار بين عوض وحاجة التومة .. اكبر بائعات الشاي سناً في سوق السجانة .. كانت تشفق على الصغير النحيل الذي يسير بكتف مهدول من ثقل حمل صفيحة الماء وهو يدور في ازقة السوق بين البائعين والمشترين يعرض ماؤه البارد .. اعتادت ان تمنحه اكواب الشاي الحار مع قطعة خبز وترفض ان تاخذ مقابل ما تعطيه .. فاصبح مكانها في طرف السوق ملجا عوض المفضل كلما احس بالتعب او الجوع .. او حتى الرغبة في الحديث والحصول على جرعة حنان فقده بموت امه .. وفي نهاية احد ايام العمل بينما حاجة التومة تلملم اغراضها ويساعدها عوض .. سالته عن اهله .. فحكى لها القصة الحزينة .. امه وشقيقه الرضيع المدفونين في بطون العقبان .. والده العجوز واخته الصغيرة المدفونين في قبور لا يعرف مكانها .. كلتوم التي اصبحت خادمة بعد ان كانت سيدة .. الرضية التي اصاب الجوع روحها قبل جسدها .. بكت المراة الحنون كأنها تبكي اعز الناس اليها ...
في صبيحة اليوم التالي اتت متهللة الوجه واخبرت الصبي بانها وجدت عملاً للرضية وطلبت منه احضارها في اليوم التالي بعد ان سالته " الرضية بتعرف تسوي شاي حلو ؟؟ " .. اندهش لسؤالها واجابها بفخر " يا خالتي التومة الرضية دي البت الكبيرة .. ومن يوم عمرها عشرة سنين وهي بتعرف تسوي أي شئ .. تطبخ وتعوس وتنضف البيت .. واقول ليك كلام ايدها طاعمة واكلها سمح بالحيل " وهكذا حصلت الرضية على مكان ابنة حجة التومة تحت ظل شجرة النيم المواجهة للقسم الجنوبي " والله يا الرضية بتي حتعرس الشهر الجاي والراجل قال ما عاوزها تشتغل .. انا كنت ناوية امشي هناك لانه الشغل احسن عشان العساكر والمحكمة والناس الجايين القسم .. وكمان بتاعين اللواري البتقيف في ميدان الليق .. الا يا بتي لمن سمعت حكايتكم قلت انتي اولى مني بالمكان " وامتد كرم حاجة التومة ليشمل ادوات شاي جديدة .. وثوب من ثيابها للرضية " جبت ليك كفتيرة ودستة كبابي وصينتين وسكرية وتلاتة ملاعق ومصفاة وكانون .. حتى الفحم جبته ليك .. والتوب دة عشان يكون منظرك كويس قدام الزبائن .. وظلت حاجة التومة تصب نصائحها في اذن الرضية عن الاسلوب الامثل للتعامل مع الزبائن وطريقة كسبهم .. كانت دموع الرضية وعوض اكبر من أي كلمات شكر قد تقال ... خلال فترة وجيزة اصبح شاي الرضية مشهورا وياتيها الزبائن من كل المنطقة المحيطة بالقسم .. واصبحت حاجة التومة بمثابة الام لهذه الاسرة الحزينة ... بعد شهر من محاولات التقرب ومئات كبابي الشاي قرر الصول مامون ان يطلب الزواج من الرضية .. سالها عن اهلها فدلته على مكان عوض وحاجة التومة في سوق السجانة .. وكعادة الامهات ارسلت حاجة التومة من يستقصى عن الصول مامون وتشابهت الاجابات " والله هو زول كويس و ظريف وما بتاع مشاكل .. بس عيبه الوحيد الشراب .. لكن ما تخافوا .. هو بيسكر هسة لانه قاعد براه والشراب بيونسه لكن لو عرس ولقى واحدة تملا ليه حياته اكيد حيخليه ويتعدل " تمسكت الرضية بهذا الامل .. ان وجودها في حياة مامون سوف يجعله يقلع عن احتساء الخمر .. تغاضت عن فارق السن الكبير ورقة الحال الواضحة .. بالنسبة لها الزواج هو الستر .. والرجل هو الامان .. بالاضافة الى ذلك سوف يسكنها في احد بيوت اشلاق البوليس المجاور للقسم .. في قلب العاصمة .. حيث ياتي الماء من المواسير .. والكهرباء بكبسة زر .. كان شرطها الوحيد ان ينتقل شقيقيها للسكنى معها بعد الزواج .. وافق مامون وتم الزواج ..
وهجرت الرضية بيع الشاي بناء على رغبة زوجها واصبحت ربة منزل تتباهى ببطنها الذي تكور بعد فترة قليلة من زواجها .. وفي نفس اليوم الذي دخلت فيه عتبة التاسعة عشرة من العمر اتيت انا الى الدنيا .. طفلة ناعمة هادئة .. ملات قلب الرضية حنانا وسعادة لكنني لم افلح في جعل الصول يقلع عن الشراب عندما بدات اتعلم المشي كانت خطواتي الصغيرة تتعثر في زجاجات الخمر التي تملا الارض .. اعتادت امي المغلوبة على امرها جمعها وبيعها الى صاحب الحمار واعطاء ثمنها لكلتوم كي تدفعه مقابل دروس محو الامية في مدرسة الام القريبة من بيتنا .. عندما اكملت عامي الخامس اتى عبد الله شقيقي الوحيد .. كانت فرحة ابي به لا توصف .. فهو بحاجة الى وريث تؤول اليه امبراطورية الزجاجات التي يملكها .. اعتاد ابي احضار رفاق الخمر الى المنزل فهم يحتاجون الى مكان آمن .. وخادمة تعد الطعام .. اصبحت حلة " الكوارع " ضيف مقيم في كانون امي .. بينما كانت مهمتي تجهيز الكاسات الصغيرة ووضع الطاولات دون ان افهم شيئا من الجدال اليومي الذي يدور بين ابي اللامبالي وامي الغاضبة لجعل منزلها " انداية " حسب تعبيرها.. استمر هذا الجدال العقيم حتى اتى اليوم الذي لعبت فيه الخمر براس احد ضيوف ابي فتسلل الى غرفة خالتي كلتوم التي كانت تعاني من وطأة الملاريا .. وعندما ارتفعت صرخاتها كان عوض يهم بدخول المنزل بعد يوم عمل شاق .. ركض بسرعة ليجد رجلا غريبا يحاول ان يسلب اخته شرفها .. فما كان منه الا ان استل سكينه التي لا تفارق ذراعه ونحر الرجل كما ينحر البعير .. لقد انقذ عوض شرف اخته وضاع هو .. دخل السجن ونجى من حكم الاعدام بعد ان تطوع احد المحامين للدفاع عنه عندما علم سبب ارتكابه للجريمة ..
بعدها رفضت امي تماما السماح لابي باحضار اصدقؤه الى المنزل فاصبح يذهب هو اليهم او يذهبوا جميعاً الى احد البيوت المشهورة في الحلة الجديدة .. عرفت الطريق الى بيت " أم بريمة " بائعة الخمور البلدية عندما اصبحت في التاسعة من عمري .. تفاقم ادمان ابي فاصبح يغيب عن المنزل لمدة يومين واحيانا ثلاثة ايام .. فتصطحبني امي الفزعة على زوجها السكير كي نذهب وناتي به .. كنا نقطع ميدان الليق المظلم بخطوات خائفة .. ونتوغل في ازقة الحلة الجديدة الضيقة .. عندما نصل تقف امي بعيدا وتامرني بالذهاب واحضار ابي من الداخل .. كنت ارتجف خوفا وانا اشق الاجساد المتناثرة في عناقريب متهدلة الحبال حتى تكاد تصل الى الارض .. وبعضهم على كراسي ومعظمهم على الارض .. يملا التراب وجوههم فتصبح مخيفة كانهم موتى هربوا من القبور .. كانت رائحة الخمر هي سيدة المكان بلا منازع .. كنت ادور وانا ابحث عن ابي بين الوجوه المتشابهة حتى اجده .. واظل فترة طويلة الكزه بيدي حتى يستيقظ غاضباً فيسبني ويسب امي ثم يستند بثقله على كتفي الصغير حتى نصل الى الشارع لنجد امي قد عثرت على عربة كارو متهالكة نضع فيها جسد ابي المترنح ونتجه الى المنزل ... كانت فكرة الذهاب الى منزل " أم بريمة تملؤوني رعباً .. وغياب ابي بضجيجه الصاخب ورائحته الكريهة تشعرني بالراحة .. لذلك كنت احيانا اتمرد على طلب امي بمرافقتها .. خصوصا بعدما اصبح بعض السكارى يحاولون التجرؤ على طفولتي الغضة .. ومن سيردعهم ؟؟ ابي الغائب عن وعيه .. ام امي الخائفة التي تقف بعيداً وترسلني الى هذا الجحيم ؟؟ ... تعلمت العض والرفس والمراوغة لنفض يد تحاول ان تلمس صدراً لم ينبت بعد .. او الامساك بساقي النحيل في محاولة للوصول الى اعلى .. لم اخبر امي بما يحدث لي في الداخل خوفا عليها .. فهي امراة هشة وضعيفة وخائفة .. ولا تملك وسائلي الدفاعية .
لم ارفض الذهاب لاحضار ابي بصورة قاطعة الا عندما بلغت السادسة عشرة بعد ان افزعني منظر جثة مليئة بالدماء مسجية في قطعة قماش سميكة وداكنة تمهيداً لنقلها ورميها في الجدول الكبير الذي يفصل الحلة الجديدة من المنطقة الصناعية .. في منزل " أم بريمة " غالبا ما تحدث مشاجرات عنيفة تنتهي بموت احدهم والتخلص من الجثة بسرية تامة .. يومها كان ابي على غير العادة في وعيه ويجالس شابا يصغره سناً بكثير .. ذو نظرات حادة احسستها وكانها تعريني من ملابسي .. رفض ابي مرافقتي .. ووعدني الشاب بلهجة لزجة بانه سيعيده سالماً حتى باب البيت .. منذ ذلك اليوم اصبح حماد ضيفا دائما في بيتنا .. ضيفا وحيدا ياتي ويجلب معه الخمر .. يجالس ابي فيشربان ويتهامسان كأن هناك سرا يربطهما .. وبدا لي كأن ابي يخافه على صغر سنه .. فقد اصر على وجوده برغم حظر امي دخول اصدقاؤه الى منزلنا بعد حادث كلتوم ودخول عوض السجن .. وبسببه امتدت يد ابي الى امي وضربها لاول مرة عندما رفضت استقباله .. وامرها بتجهيز الطعام .. وامرني انا بتقديمه ... بعد شهر من الاكل والشراب والهمس .. اتاني ابي يحمل عرضا غير قابل للنقاش او الرفض سوف يزوجني لحماد .. بكيت كثيراً واستعطفته امي .. حتى كلتوم والصغير عبد الله شاركوني الرفض .. لكن يبدو ان لا شي كان يستطيع ايقاف ابي عن نقل ملكيتي الى صديقه الشاب ذو النظرات الحادة في السابعة عشرة كنت قد انجبت ايمان .. احيل ابي الى التقاعد وتفرغ تماماً لاحتساء الخمر التي اصبح ينفق عليها كل معاشه ويزيد عليه من عائدات بيع الكسرة التي امتهنتها امي حتى تستطيع الانفاق على اخي الصغير وتعليمه .. كانت تتمنى ان يصبح رجلا مختلفاً عن ابيه .. أقمت في بيت ابي حتى ارعى امي التي اصابها المرض وبدات قواها تتهاوى من العمل الشاق وروحها تنزوي من زوجها السكير وقلبها يتالم على شقيقها المسجون الذي اعتدنا زيارته كل اسبوع .. اصبح عبد الله مسئوليتي ارعاه وكانه ولدي وليس اخي كنت احميه بشراسة وخصوصا من جارنا الاربعيني الرقيع الذي اعتقدت في البداية ان نظراته الزائغة تتبع تحركاتي بطريقة مركزة وغريبة اشعرتني بالخوف .. ثم اكتشفت ان اهتمامه منصباً على ابن الثالثة عشرة الذي يتبعني كظلي .. كنت اشعر بالقرف لدى رؤيته يدخل بيتنا في أي وقت وينادي زوجي بصوته الناعم وهو يحمل جانب جلبابه الايمن تحت ابطه .. رفضت وجوده في بيتنا واخبرت ابي بشكوكي فلم يهتم .. كان واضحاً ان الخمر قد قتلت كل شئ بداخله .. رجولته .. نخوته .. ابوته .. طلبت من حماد منعه من زيارتنا وقابل طلبي بنفس برود ابي .. فما كان مني الا ان واجهته بنفسي وطردته .. ورد علي بصفاقة غريبة " يا شاطرة البيت البتطرديني منو دة انا الفاتحه .. انا البجيب اكله وشرابه .. ولا انتي قايلة ابوك وراجلك هم البياكلوكم ؟؟ لو انا مشيت صدقيني حتموتوا من الجوع " نشبت اظافري في وجهه الاجرد الاملس ففر هاربا وهو يتوعدني ... اخرجت عدة امي القديمة واخذت موقعي امام القسم وبدات ابيع الشاي .. عبدالله بجانبي وايمان في فراش صغير على الارض خلفي .. كلتوم ترعى امي التي اصبحت طريحة الفراش ولا تقوى على الحركة .. حماد وابي يحتسيان الخمر في المنزل ...عندما اكلمت ايمان عامها الاول ماتت امي بحسرتها على شقيقها المسجون وابنتها التي ينتظرها مصير لا يقل سودا عن مصيرها هي .. ابنها الصغير الذي تاهت طفولته بين اب سكير وام مريضة .. شقيقتها الموجوعة من الحياة بكل ما فيها .. قبل وفاتها اوصتني " يا بنيتي الدنيا تعبتك شديد .. لكن اصبري .. خلي بالك من بتك واخوك .. واوعاك تخلي الحصل لعوض وليك يحصل لايمان وعبد الله .. ديل امانتك .. حافظي عليهم .. ختيهم جوة عيونك .. دافعي عنهم .. خليهم يعيشوا حياة احسن مني ومنك " وضعت وصيتها نصب عيني .. وفي قلبي .. تزوجت خالتي كلتوم من امام المسجد الصغير في وسط الاشلاق .. وانتقلت مع زوجها للسكنى في المنزل الملحق بالمسجد .. كان زوجها رجلا طيبا ولم يمانع وجود ايمان وعبد الله في بيته معظم الوقت حتى اتفرغ انا لبيع الشاي .. واستمرت الحياة بمرها الخالي من الحلو .. حتى استيقظت فجر احد الايام على صراخ ابي المتالم وعندما ركضت اليه وجدت عبد الله يقف بذهول امام فراش الصول مامون الملئ بالدماء .. وعلى صدى صرخاتي المدوية تجمع كل اشلاق البوليس في حوش بيتنا الصغير ... في المستشفى اخبرنا الطبيب بان كبد ابي قد اهترا من الكحول .. وانه يحتضر ... اضطر حماد للتوقف عن احتساء السم الذي ادمنه طيلة ايام العزاء ليعود اليه بعدها بشراهة اكبر .. لم يعد مردودي من الشاي يكفي .. اصر عبد الله على العمل برغم اعتراضي الشديد .. وبراتب بسيط اصبح يقوم بمهام تفوق عمره الصغير في " سك العملة " القريب من بيتنا .. وقت الفطور كان ياتيني راكضاً لاعطيه كوب شاي وسندويتش فول يعود بعدها مسرعا الى عمله .. يوم تسلمه اول راتب كانت فرحته طاغية اتاني به ووضعه في يدي " خليه معاك بس اديني اشتري بنطلون عشان دة بقى قديم ومشرط " يومها بكيت كما لم ابك من قبل .. بكيت طفولته الضائعة .. وشبابي الضائع .. بكيت ابنتي التى لا اراها الا لماماً .. بكيت زوجي السكير العاطل .. بكيت حياتي كلها ..
لكن يبدو ان اوان البكاء المستمر لم يحن بعد .. عصر ذلك اليوم رجعت الى البيت مرهقة وطلبت من عبد الله ان ياتي بايمان من بيت كلتوم .. ويبدو ان النوم قدغافلني وسرق انتباهي في انتظار عودتهما .. تنبهت حواسي فجاة على صوت ارتطام مكتوم .. راودني احساس غير مبرر بالخطر والخوف .. نهضت مسرعة وخرجت الى الحوش لافاجأ بمنظر جمد الدماء في عروقي ... عبد الله يحمل ايمان بيد وبالاخرى يحاول اقتلاع ذراع حماد من حول عنقه .. كان صوت حماد المثقل بالشراب ياتيني متقطعاً وهو يحاول ادخال يده في جيب عبد الله " يا ود الكلب .. انت مش صرفت الليلة ؟؟ وينو راتبك ؟؟ طلع القروش سريع والا حاطلع روحك .. مش كفاية مقعدك في بيتي ؟؟ يبقى تدفع حق قعادك .. ولو ما عاوز تدفع امشي شوف ليك مكان تاني يلمك .. هات القروش .. وديتها وين ؟؟ " افاقني من جمودي صراخ ايمان التي بدات تنزلق من يد عبد الله .. رايت وجه اخي وهو يتحول الى اللون الازرق وعيناه تجحظ من شدة ضغط ذراع حماد على عنقه النحيل .. صرخت بلوعة " حماد فك رقبة الولد حتقتله .. حماد خلي رقبة الولد يا سكران يا حيران .. بيت شنو البتتكلم عليه .. دة ما بيتك .. دة بيت عبد الله وبيت ابوه .. فك الولد يا حمد " .. لم يهتم وواصل ضغطه العنيف .. لم ادر بنفسي الا وانا احمل سكين المطبخ الصديء وانهال بها طعناً على رقبة حماد من الخلف وعلى ذراعه التي تعتصر عنق عبد الله .. كانت طعناتي سريعة .. قوية .. متتالية .. امدني خوفي على صغاري وذكرى وصية امي بقوة غريبة .. لم اتوقف الا بعد ان سمعت صوت ارتطام جسد ايمان بالارض وهي تصرخ بخوف .. تهاوى جسد حماد ووقع تحت اقدامي .. تهاوى جسد عبد الله على ركبتيه وهو يجاهد لالتقاط الهواء .. وتهاويت انا لاحتضن صغيرتي واخي ... عندما تدافع الجيران على صوت الصراخ كان المنظر مخيفاً .. الدماء تغطيني من راسي حتى قدمي وانا احتضن الصغار بقوة .. جسد حماد ينتفض ببطء .. وبقينا هكذا حتى اتت الشرطة ... سوف تبدا محاكمتي غداً .. تطوع كثير من المحامين للدفاع عني .. ووعدني بعضهم بالبراءة .. ماذا تعتقدون ؟؟ هل استحق البراءة ؟؟

يوميات زوجة موظفة السبت 25 اغسطس .. الساعة الخامسة صباحاً .. تعالى رنين المنبه بصوته المزعج .. تململ زوجي بضيق ورفع راسه المنتفخ من النوم العميق رمقني بنظرة كسولة " يا وجدان يا اخي حرام عليك كل يوم قالقة نومي بمنبهك المزعج دة .. يا زولة ما تتعودي تصحي من غيره .. نظرت اليه بغيظ وانا انفض الغطاء عني " انت ما ناوي تقوم تصلي ؟؟ " اتاني صوته المتثائب وهو يعيد تغطية وجهه " بعدين .. بعدين .. تعالى صحيني الساعة ستة ونص .. انت طالعة اقفلي الباب وراكي " وسرعان ما غط~ في النوم .. قبل دخولي الحمام اتجهت الى المطبخ .. وضعت اناء الشاء على نار هادئة .. جهزت الاواني في الصينية الكبيرة .. صحن البسكويت .. كوب الشوب السادة لزوجي العزيز الذي لا يرضى بديلا له .. كوب المج المطبوعة عليه صورة عمرو دياب لابنتي المراهقة .. اكواب سبايدر مان وباتمان للصغرين المتنافسين في اافتناء رسوم ابطال افلام الكرتون .. ثم كوب ( عثمان حسين ) الخاص بي والذي يصبح طعم الشاي بدونه غريباً ...
الساعة 5:30 صباحاً ... انتهيت من الاستحمام والصلاة وبدات الرحلة اليومية بين اسرة الاولاد " اصحي يا سارة .. يلا يا محمد .. قوم يا معتز " لتاتيني الردود اليومية " يا ماما لسة الواطة بدري خليني شوية .. يا ماما ليه تصحيني اول ؟؟ صحي معتز وبعدين انا .. يا ماما أنا عيان وما عاوز امشي المدرسة " تستغرق رحلتي ما بين خمس الى عشر دقائق حتى اضمن صحيان الجميع ثم اتجه الى المطبخ .. حليب الاولاد .. شاي بلبن بوردة لي ولسارة بينما يرفضه زوجي بدعوى انه يسبب له الامساك ويصر على الشاي باللبن المقنن كما كان يشربه في بيت امه .. بعدها يبدا عمل السندويتشات ووضعها داخل الشنط احتجاج سارة اليومي " يا ماما انتي لسة قايلاني شافعة في الابتدائي تعملي لي سندويتشات ؟؟ انا كل مرة باشعر بالاحراج قدام صحباتي لمن اطلعها من الشنطة .. اديني قروش وانا اشتري براي .. كلهم بيشتروا من مؤمن ولذيذ وانا اجيب من البيت ؟؟ " في نهاية الامر تدخل السندويتشات داخل حقيبتها حتى لا تموت جوعاً ...
الساعة 6:30 صباحاً ... " قوم يا عبد العزيز الوقت اتاخر .. " " أنا صاحي يا وجدان ... امشي جهزي لي الشاي والسنتدويتشات .. وطلعي لي هدوم من الدولاب .. الليلة عاوز القميص البيج والبنطلون البني المحروق ومعاهم الكرافتة المخططة بالبني " طيب يا عبد العزيز .. ما عاوزني كمان اجي اغسل ليك اسنانك واسرح ليك شعرك ؟؟ كان ردي بمثابة احتجاج صغير على اعتماد زوجي الكلي عليّ ... الساعة 7:00 صباحاً " وجدان اعملي حسابك الليلة عندنا ضيوف على الغدا .. في جماعة من اهلي جوا من البلد امبارح وحيجوني المكتب ونرجع سوا " " الليلة ؟؟ كيف يعني الليلة يا عبد العزيز ؟؟ وليه ما كلمتني من امبارح عشان اعمل حسابي واجهز اكل ؟؟ جاي تكلمني هسة ؟؟ انت ما عارف الدنيا آخر شهر والثلاجة فاضية ؟؟ " " يا زولة نسيت اكلمك... شنو كفرت يعني ؟؟ اتصرفي .. اعملي أي حاجة " " أي حاجة زي شنو كدي قول لي ؟؟ المرة الفاتت برضه جوا من غير موعيد ولمن عملت الموجود قلت لي فضحتيني قدام اهلي " " لكن انتي المرة الفاتت ما بالغتي عديل .. تختي ليهم بس ملاح وقراصة وسلطة ؟؟ " " ما هو دة الكان موجود في البيت .. هم اهلك ديل ما بتحلى ليهم الجية الا آخر الشهر ؟؟ ... وبعدين بيجوا كدة فجاة من غير احم ولا دستور ليه ؟؟ ما سمعوا باختارع اسمه التلفون ؟؟ " " وجدان .. ما تنقي كتير .. هاكي دي عشرة الف اتصرفي بيها واعملي غدا كويس " " عشرة الف وغدا كويس ؟؟ .. انت اكيد بتحلم .. طيب اشتغله متين الغدا الكويس دة ؟؟ ولا كمان اخلي شغلي الليلة واقعد عشان اهلك قرروا فجاة انهم يجونا وعاوزين غدا كويس ؟؟" يبدو ان كلامي ازعجه فرمقني بنظرة غاضبة وخرج .. وركضت لاستطيع اللحاق بسيارة النقل الجماعي وأنا اكاد انفجر غيظاً .. جلست في مقعدي المعتاد بجانب صديقتي حنان التي رات ملامحي الغاضبة " بسم الله .. في شنو مالك مادة بوزك شبرين من صباح الرحمن ؟؟ متشاكلة مع عبد العزيز ولا شنو ؟؟ " خرجت كلماتي خافتة حتى لا تسمعنا الآذان الفضولية " تعرفي يا حنان الراجل دة حيفقع مرارتي ... تخيلي هسة وانا مارقة بيقول لي اهله جوا من البلد امبارح وجايين يتغدوا معانا الليلة .. وهو عارف انو البيت فاضي والتموين بتاع الشهر كله انتهى .. رمى لي عشرة الف وقال لي " اتصرفي واعملي غدا كويس " قلتها وانا احاكي لهجة زوجي الغريبة ...
رتفعت ضحكة حنان الرنانة المرحة لتزرع ابتسامة في وجهي العابس .. " يا زولة ما تشيلي هم .. حنتصرف معاك كلنا عشان تعملي غدا كويس لنسابتك الظريفين .. وبعدين يا بت الخرطوم انتي من الاول غلطانة .. ما كنتي تعرسي ليك واحد عنده اهل في البلد عشان مرارتك ما تنفقع " الساعة 10:00 صباحاً ... تطوعت حنان لمرافقتي في رحلة التسوق الاجبارية .. وجدنا باعة يفترشون الارض خلف ديوان الضرائب حيث نعمل .. وفي جولة سريعة تم شراء الخضروات بما اعطانيه زوجي الكريم واضطررت لشراء اللحوم من مالي الخاص .. الساعة 11:15 صباحاً ... جندت كل زميلاتي في عمل الغداء الموعود تعاونت امل وتهاني في تنظيف الملوخية .. ابتهاج ومنى لتنظيف خضار المحشي .. بينما افسح لي عم عثمان عامل البوفيه مكانا في البوتجاز الصغير لطهو شوربة الملوخية .. وانقضى يوم العمل الحكومي في اعداد طعام اهل زوجي ... تم وضع الاوراق داخل الادراج .. اغلقنا باب المكتب باحكام .. وفي حال وصول احد المراجعين كنا نعتذر بلباقة لا نملكها في الايام العادية " معليش الكمبيوترات عطلانة .. تعالوا بكرة " ... الساعة 12:30 ظهراً ... انتهت فتحية من حشو خضار المحشي بينما اخذت منى ما تبقى من مخلفاته واعدت منها سلطة ملات رائحتها المكتب الصغير .. اتت ابتهاج تركض بانفاس لاهثة " هي المدير جاي على هنا .. لموا الحاجات دي سريع لا يطين عيشتنا " وفي لحظات اختفت كل ادلة الجريمة وظهرت الاوراق من الادراج وتظاهرنا بالانهماك في العمل برغم رائحة السلطة التي تملا المكان .. ومر الامر بسلام ...
الساعة 1:30 ظهراً ... طاولة المكتب امامي مليئة بمختلف انواع واحجام علب البلاستيك المحكمة الاغلاق .. كنت اراجع بحرص " دة المحشي ودي السلطة .. دي الشوربة ودي الملوخية .. يا بنات عليكم الله واحدة منك تجيب صينية قديمة من بيتهم وانا حاجيب مفرمة ملوخية عشان تاني نفرمها هنا ونخلص ... تاني ناقص شنو يا ربي ؟؟ قولوا لي سريع انا لازم امشي هسة عشان الحق اجهز باقي الاكل .. حنونة انتي وقعي لي على كشف الانصراف وما تخلي زول يلاحظ ما عاوزين مشاكل .. منينة انتي نزلي معاي الحاجات دي من الباب الورا وركبيني التاكسي .. شكرا يا شابات يا ظريفات .. نردها ليكم لمن تتزنقوا زيي كدة "... الساعة 2:30 بعد الظهر ... بعد مجهود مضني اصبح الاكل شبه جاهز .. اتى الصبيان من المدرسة في حالة جوع شديد كما هو معتاد " ماما احنا جعانين وعاوزين ناكل " .. " استنوا شوية يا اولاد اهل ابوكم جايين وحنتغدى كلنا مع بعض " " لا يا ماما احنا جعانين وما بنقدر نستنى ادينا هسة " وتحت الالحاح المتواصل كان لهم ما ارادوا .. " تعالي يا سارة ساعديني شوية " ... " يا ماما حرام عليك انا جاية من المدرسة هلكانة وما باقدر عاوزة ارتاح شوية عشان اقوم اذاكر "... دخل عبد العزيز مبتهجاً .. فهو يكون دوما هكذا عند استقبال اهله .. عكس حالته عند استقبال اهلي .. " وجدان احنا جينا .. الغدا جاهز ؟؟ " ربع ساعة ويكون كله جاهز .. جبت معاك العيش ؟؟ .. " العيش ؟؟ هو انتي ما جبتيه معاكي ؟؟ والله بالغتي .. يعني هسة انا اطلع تاني امشي الفرن ؟؟ .. خرج اثر نظرة نارية حدجته بها وحتى يتفادى الجدال امام اهله .. انتهى الغداء .. تبعه الشاي والقهوة ... الساعة 4:00 عصراً ... امتلا كل فراغ في المطبخ بجبل من الاواني المتسخة .. نظرت اليها بتعب وذهبت الى غرفة الحبيبة سارة لاجدها هائمة في سريرها وهي تقرا رواية عبير بينما يتعالى صوت وائل كفوري من جهاز التسجيل " باحبك انا كتير .. يا حبيبي طلّ عليّ ووعيني بكير " " سارة تعالي وساعديني في غسيل العدة انا تعبت شديد " نظرت الي بفزع .. " ماما عاوزاني انا اغسل العدة ؟؟ .. مستحيل ضوافري بتتكسر .. انا ما صدقت انها طولت .. وبعدين يا ماما ما في زول في البلد دي ما عنده خدامة غيركم .. انتي وباب الاتنين شغالين ليه ما تجيبوا ليكم خدامة ؟؟" ... عشان يا اميرة زمانك قروش الخدامة دي انتو اولى بيها .. قومي يا بت قبل ما اوصلك واشرط ليك الكتاب الفي ايدك دة واكسر الشرايط الفارغة البتسمعي فيها " .. من نظراتي ولهجتي علمت الابنة المدللة انني قد وصلت الى منطقة الخطر فنهضت مسرعة وهي تتبرم واتجهت الى المطبخ ...
الساعة 5:00 مساء ... خرج الضيوف .. اتجه عبد العزيز الى السرير وغرق في النوم مباشرة .. واتجهت انا الى حقائب محمد ومعتز لبدء المذاكرة وحل الواجبات ... الساعة 7:00 مساء انتهت المذاكرة .. استيقظ عبد العزيز مطالبا بشاي المغرب وجلس امام التلفزيون لحضور مباراة كرة قدم منقولة من دولة لا تهمنا ولا نستطيع وصول مستواها في اللعب .. الساعة 8:00 مساء ... خرجت لاداء واجب العزاء لدى جارة بعيدة .. وتهنئة اخرى بانجاب مولود .. ثم اتجهت لرؤية امي المريضة .. وفي طريق العودة مررت على محل صيانة الثلاجات وطلبت من العامل الحضور غدا للكشف على الثلاجة التي تعمل بنصف كفاءتها العادية .. ربما تعانى من الفارغ الذي يملاها وتشكو صمت الباب المغلق ... الساعة 11:30 مساء ... لملمت باقي عشاء الصغار . قمت بكي ملابس المدرسة ليوم غداً ... وضعت الملابس المتسخة داخل الغسالة .. رتبت البيت ومخلفات فوضى الزوار .. ثم جررت قدمي الى غرفتي وانا بالكاد استطيع السير ... هناك وجدت عبد العزيز مضجعا على السرير وفي عينيه نظرة اعرفها جيداً ... وبصوت ناعم خاطبني بصيغة الدلع التي لا يجيد استخدامها الا في حالات الطوارئ " شنو يا وجيدة اتاخرتي برة كدة مالك ؟؟ انا من قبيل منتظرك " لم تكن لي طاقة حتى للرد .. وكانت علامات التعب مرتسمة بوضوح على وجهي الشاحب الخالي من الزينة .. لكن زوجي العزيز لم يهتم بكل ما يراه .. ففي وقت المطالبة بالحقوق تختفي قوة الملاحظة ويحل محلها التجاهل المصمم على نيلها مهما كان الوضع .. " عبد العزيز انا تعبانة شديد وما عندي مزاج " .. " يعني يا وجدان طول اليوم بتشتغلي لكل الناس ولمن يجي دوري تبقي تعبانة ؟؟" وكان يهم بتشغيل اسطوانة لعنة الملائكة .. وحرصه على الالتزام .. واهمية تقدير رغبته بعد مرور خمسة عشر عاما من الزواج ... و ... و ... و... واختصرت الامر باعطاؤه ما يريد دون ان احصل انا على ما اريد ودون ان يهتم هو بمعرفة اذا ما كنت قد حصلت على ما اريد انا وليس ما يريد هو .. وبعدها اعطاني ظهره دون كلمة واحدة وغرق في نوم عميق وعلا شخيره .. جررت نفسي مرة اخرى الى الحمام وخرجت وانا اكاد اقع من فرط التعب لدرجة لم اقوى على تجفيف شعري المبلل .. رفعت الغطاء وقبل ان اغرق في النوم وضعت المنبه على الساعة الخامسة صباحاً ...
***************************************************************************
هل استمتعتم بالتلصص على هذه اليوميات ؟؟ ..؟؟
.. كنت احاول كتابة قصاصة اخيرة من دفترمجهول لونه احمر وجدته في مكان ما .. وعندما فتحته كان فارغا الا من صفحتين .. الاولى والاخيرة هل علمت صاحبته اني قد اتسلل الى صفحاته السرية وانشر بعضا منها ؟؟ ربما ... لذلك تركت لي الفراغ وحرية التكهن بما طمس عن عمد كتبت فقط في صفحتين الاولى والاخيرة ... في الصفحة الاولى كتبت .. على دفتر ساجمع كل تاريخي ... على دفتر سارضع كل فاصلة حليب الكلمة الاشقر .. ساكتب لا يهم لمن .. ساكتب هذه الاسطر ... فحسبي ان ابوح هنا .. لوجه البوح لا اكثر .. حروف لا مبالية ابعثرها على دفتر .. بلا أمل بان تبقى .. بلا أمل بان تنشر ... لعل الريح تحملها .. فتزرع في تنقلها .. هنا مرجاً من الزعتر .. هنا كرماً هنا بيدر ... هنا شمساً وصيفا رائعاً أخضر .. حروف سوف افرطها كقلب الخوخة الاحمر ... لكل سجينة تحيا .. معي في سجني الاكبر .. حروف سوف اغرزها .. بلحم حياتنا خنجر ... اذن هي من عاشقات شعر نزار .. وقلبت الصفحات عليّ احظى ببعض الاسرار المدفونة فكانت بيضاء من غير سوء .. حتى وصلتانها مثلي تعشق شعر نزار قباني .. الى الصفحة الاخيرة فوجدتها كتبت ... وداعا ايها الدفتر .. وداعاً يا صديق العمر يا مصباحي الاخضر ... ويا صدراً بكيت عليه اعواما ولم يضجر .. ويا رفضي .. ويا سخطي .. يا رعدي ويا برقي ... ويا الما تحول في يدي خنجر ... تركتك في امان الله يا جرحي الذي ازهر ... فان سرقوك من درجي وفضوا ختمك الاحمر ... فلن يجدوا سوى امراة .. مبعثرة على دفتر ... اغلقت الدفتر الاحمر لمجهولة لم استطع قراءتها ... اذن كل ما عرفته عنها هل هي انا ام اخرى تشبهني .. كل الاجابات واردة ...

سناء عمر بابكر جعفر مايو 2006 دبي

7 comments:

Unknown said...

قصص تمزق الوجدان من الحزن الفيها والمحزن اكتر إنها حقيقية...بس خلتني أعيد النظر في حاجات كتيرة لازم تتغير ..وكتر خيرك يا أستاذة

ALSHADOUF said...

انتهج كثير من كتاب القصه القصيره اسلوب السرد الرمزي المشحون بالضبابيه المعتمه لشخصيات خياليه تحيطها الفانتازيه والسحر ولكن انا نظرتي مختلفه ارى ان النظره المتعمقه للسرديه الواقعيه هو الذي يعيد ترتيب دواخلنا المتهالكه على اريكة الزمن المغبر المهترئ واعادة التوازن الحميم الذي افتقدناه زمنا .
فانا كهاو في مجال السرد الواقعي دائما تستهويني الكتابات الواقعيه التي ارى فيها الحقيقه والمس فيها المصداقيه الحكائيه للبنيه النصيه للسرد والجوهر الجلي للواقع المعاش.
تسلمي كتير استاذتي سناء على هذه النصوص الماتعه التي اثارت شجون واقعنا السوداني الذي يسري في وجداننا حلو مر بنكهة الوطن.
،،المملكه العربيه السعوديه ،،،،، قريب الله برير محمد الحسن

ALSHADOUF said...

انتهج كثير من كتاب القصه القصيره اسلوب السرد الرمزي المشحون بالضبابيه المعتمه لشخصيات خياليه تحيطها الفانتازيه والسحر ولكن انا نظرتي مختلفه ارى ان النظره المتعمقه للسرديه الواقعيه هو الذي يعيد ترتيب دواخلنا المتهالكه على اريكة الزمن المغبر المهترئ واعادة التوازن الحميم الذي افتقدناه زمنا .
فانا كهاو في مجال السرد الواقعي دائما تستهويني الكتابات الواقعيه التي ارى فيها الحقيقه والمس فيها المصداقيه الحكائيه للبنيه النصيه للسرد والجوهر الجلي للواقع المعاش.
تسلمي كتير استاذتي سناء على هذه النصوص الماتعه التي اثارت شجون واقعنا السوداني الذي يسري في وجداننا حلو مر بنكهة الوطن.
،،المملكه العربيه السعوديه ،،،،، قريب الله برير محمد الحسن

Unknown said...

انا علي من تريد المتعه
الجنسية في سريه تامه غير ما هتقلعي هدومك هخليكي تجيبيهم علي نفسك اكتر من خمس او ست مرات لأني اول ما هتكوني في حضني هبص لعنيكي وهضمك لحضني اووووي عشان تحسي بحبي واحساسي وقلبي الي بيدق وبعدين هزقك لأقرب حيطه وهلزق جسمي في جسمك وهنزل فيكي بوس من ودنك لخدك لشفايفك وهفضل امص شفايفك اوي واعضها اوي وادخل لشاني جوه بقك اشفط ريئك وبعدين همسك طيزك وانتي لسه من تريد المتعه
الجنسية في سريه تامه غير ما هتقلعي هدومك هخليكي تجيبيهم علي نفسك اكتر من خمس او ست مرات لأني اول ما هتكوني في حضني هبص لعنيكي وهضمك لحضني اووووي عشان تحسي بحبي واحساسي وقلبي الي بيدق وبعدين هزقك لأقرب حيطه وهلزق جسمي في جسمك وهنزل فيكي بوس من ودنك لخدك لشفايفك وهفضل امص شفايفك اوي واعضها اوي وادخل لشاني جوه بقك اشفط ريئك وبعدين همسك طيزك وانتي لسه لابسه امشي ايدي عليها واضمك ليا عشان تحسي بقوه زبري الي واقف مستني لحظه القتال وبعدين همسك صدرك من فوق الهدوم وانزل فيهم دعك وانزل ايدي علي كسك من فوق الهدوم اعصره عصر وبعدين ادخل ايدي جوه الي انتي لابساه علي الكلوت من بره عشان الاقي عسلك الي مغرق الكلوت كله بزمتك مش جبتيهم مرتين تلاته لغايه دلوقت وبعدين هشيلك واخش بيكي اوضة النوم وانيمك علي السرير واقلعك هدومك حته حته وافضل ابوس كل حته فيكي وانزل علي صدرك وابوس فيه وامص كل حته فيه واعذبك ومش هروح للحلمات عشان تتعذبي من اشتياقك لأني احطهم في بقي بس مش هعذبك كتير واخدهم في بقي وافضل امص وارضعهم واشدهم اوووووووي واعضهم اووووي لغايه اما تموتي وبعدين اقلبك علي بطنك وانزل علي ضهرك بوس ولحس بلساني لغايه اما تموتي وانزل علي طيزك ابوسها واعضها واعصرها عصر بأيدي انا علي وبعدين اروح للعش بتاعك الياكيد بعد كل ده هيبقي غرقااااااااااان دا الفون01151429804 اووووووووي وهلحس كل حته فيه واشفط كل نقطه عسل نزلت منك وادخل لساني انا علي جوه اشفط كل عسلك الي جوه وامسك بظرك بسناني واشده اوي واوجعك اووووي وافضل الحسه وامصه اوي لغايه اما تموتي وبعدين احييكي تاني بزبري لما تشوفيه وتشتاقي لدخوله بعد ده كله وهخليه يقطع كسك من كتر النيك وعلي فكره انا معنديش سرعه قذف وبعرف ااخر نفسي يعني معاكي للصبح لو محتاجه بجد لرجل يعرف كيف يمتع ألأنثي كلميني للبنات فقط ضيفينى في سريه تامه جدا بس انا مقابلات بس مليش فالشات

Saeed Osman said...

جميل جدا قصص واقعية غاية في الإثارة تكشف المجتمع وتعامله مع الانثى وقسوته في كثير من الاحيان لكن الأسلوب يحتاج لصقل اكثر

Unknown said...

نحن في حاجة ماسة إلى المتبرعين الكلى في جميع أنحاء العالم بمبلغ 800،000.00، وروز ..
الاتصال دانيالز لمزيد من المعلومات حول إجراءات الكلى:

  البريد الإلكتروني؛ danielshospital55@gmail.com

ال WhatsApp؛ +2348181726727

شكرا..

Unknown said...

نحن في حاجة ماسة إلى المتبرعين الكلى في جميع أنحاء العالم بمبلغ 800،000.00، وروز ..
الاتصال دانيالز لمزيد من المعلومات حول إجراءات الكلى:

  البريد الإلكتروني؛ danielshospital55@gmail.com

ال WhatsApp؛ +2348181726727

شكرا..