Followers

Sunday, July 23, 2006

رشة عطر

قصة مستوحاة من واقعة حقيقية ومخلوطة بقدر وافر من الخيال
كان يوماً شتوياً دافئاً تسللت فيه خيوط الشمس بإصرار حميم لتخترق الستائر المسدلة وتنعكس على وجه نائم ترتسم على محياه علامات
القلق ..الهدؤ يسود المكان إلا من تكتكات عقارب الساعة التي تشير إلى السابعة صباحاً ...فجأة هبت سناء من نومها وأطلقت صيحة مذعورة أدت إلي إيقاظ رفيقتها في الغرفة وهي تتململ .. وتلاقت نظراتهما بدهشة ... كانت سناء تجلس في منتصف السرير وشعرها المتماوج ينسدل على كتفيها بفوضى محببة وفي قميصها الناعم المزركش بدت كأنها طفلة خرجت من عالم الحكايات فهي وبرغم بلوغها منتصف الثلاثين لكن ملامحها تحمل براءة آسرة وما زالت عيناها الواسعتان تمتلئان بالدهشة لرؤية العالم من حولها ..لم تحاول صديقتها سؤالها عما بها ... فمنذ يومين لم يكن لهما نقاش غير موضوع واحد يشغل بال سناء ويؤرقها ويقض مضجعها .. وبرغم محاولات صديقتها تهوين الأمر عليها إلا أن كل كلماتها المطمئنة لم تفلح في إزالة القلق حول الموضوع الذي اعتبرته سناء مسالة حياة أو موت ..سألتها "منى" بهدؤ : في شنو ؟؟ نفس الكابوس مرة تانية ؟؟ردت سناء بوهن : المرة دي أفظع .. حسيت كأنه حقيقة ... يا ربي لمن نفسي انكتم ... ما كان حادث زي كل مرة ... الدور دة العربية مشت عديل لهاوية غريقة ووقعت وكلنا متنا ... نهضت الصديقة المشفقة من سريرها واتجهت إلى سناء وربتت على كتفيها وحاولت جاهدة أن تهدئ من روعها فقالت لها : قومي اتوضي وصلي واقري سورة يسن بنية الموضوع دة وإنشاء الله ما يحصل غير الخير ...
نهضت سناء متثاقلة وغابت في الحمام فترة طويلة أدركت منها صديقتها أنها في غاية التوتر فهي عادة تغتسل بسرعة إلا عندما تكون قلقة ..وعندما خرجت كانت قطرات الماء تتبارى في التسابق من شعرها المبتل لتنزل على جبينها العريض .. وأخذت تطرف برموشها الطويلة لتصد الماء عن عينيها وبلهفة وقفت على سجادة الصلاة وبدأت تصلي بخشوع فأطالت السجود وعندما فرغت قرأت سورة يسن وظهر الاطمئنان على وجهها وبدت اكثر هدؤاً وهي تلبس ثيابها ... كانت "منى" تراقبها بود وإشفاق ... لم يدور بينهما أي حديث كما اعتادتا عندما تستيقظان سويا بل لف الصمت أرجاء الغرفة الحالمة كأنه رفيق ثالث لهما ...حينما انتهت سناء من ارتداء ملابسها وضعت مكياج خفيفا ابرز تقاطيعها الجميلة ..فتحت خزانتها ووقفت تتطلع إلي مجموعة العطور المرتبة بطريقة بديعة .. كانت حائرة أي منها تختار ..فهي مولعة بالعطور .. ولكل عطر مناسبة معينة ..
اليوم هي تحتاج إلى عطر يمنحها الشجاعة والثقة وفي نفس الوقت الراحة والدفء ... ولا يكون مستفزاً حتى لا يضايق من حولها ..مدت يدها ومن الخلف أخرجت احب عطورها إليها (أوكسجين ) من دار" لانفان" فهو يمنحها كل ما كانت تتوق له ... وضعته بحرص خلف أذنيها وعلى جيدها وفي معصميها .. رشت حول جسدها بسخاء ثم أعادت القنينة إلى الخزانة وهمّت بإغلاق بابها ..ترددت .. فتحته مرة أخرى وتناولت قنينة العطر ووضعتها داخل حقيبتها الصغيرة الأنيقة ... فهي تحتاجه اليوم ليكون معها ويدعمها خلال التجربة المخيفة التي تنتظرها ... أخذت نفسا عميقا ..نظرت إلى صديقتها الحبيبة وبدون كلمة بينهما عانقتها كأنها تستمد منها القوة وتمتمت "منى" بكلمات التشجيع في أذنها وبخطوات آلية نزلت سناء إلى الشارع أوقفت التاكسي وبلغة إنجليزية سليمة طلبت منه أن يتجه إلى مركز مرور دبي ..فاليوم سوف تخوض امتحان الحصول على رخصة القيادة ...
انطلقت سيارة الأجرة وسط زحام شوارع دبي وكان هناك ضباب خفيف يملا الجو ويعكر صفو الأفق ... اعتدلت سناء في جلستها القلقة وأخذت نفسا عميقا ندمت عليه فوراً ..فالرائحة المنبعثة من السائق الهندي عبقت بأنفها وألغت كل ما عداها .. وبهدؤ خفي أخرجت قنينة عطرها ونفحت رشة صغيرة في راحة يدها وغطت بها انفها وأغمضت عينيها لتدخل في عالم العطر وتنسى ما حولها ...سرح خيالها وكانت رحلة الحصول على رخصة القيادة تمر كالشريط في رأسها ... منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها فتح الملف ...تذكرت رهبة الدخول إلى مركز شرطة المرور .. قاعة التسجيل الخانقة ..الموظفات اللامباليات .. النظرات الزائغة .. لمعة الفرح وانطفاءة الحزن ... واستمر الشريط لتبتسم عند ذكرى أول مرة جلست فيها أمام عجلة القيادة والارتباك الذي شل حركتها .. حنان المدربة التي اختارتها سودانية عن عمد حتى تكون لغة التواصل افضل ...وقد كان لها ما أرادت إذ توطدت علاقتها بمدربتها وصارت اقرب للصداقة منها لعلاقة عمل .. تذكرت لحظات الانتهاء من الدرس .. الأحاديث المرحة التي كانت تدور بينهما .. وفجأة أفاقت على صوت السائق يعلنها بالوصول إلى مركز المرور .. دفعت الأجرة وانسلّت من السيارة بلهفة وخوف ... سارت في الممر الطويل الذي قطعته أربع مرات حتى الآن ... كل مرة كانت تذهب فيه محملة بالأمل وتعود عليه بخيبة مريرة عندما تفشل في اجتياز الاختبار ..دخلت القاعة المخصصة للسيدات وفؤجئت بالعدد الكبير الموجود ..وبرغم برودة الجو خارجاً صدمتها الحرارة المنبعثة من القاعة ..دخلت وشقت طريقها إلى المقاعد الأمامية حتى تضمن سماع اسمها حال مناداتها عبر مكبر الصوت .. بالقرب منها جلست امرأة يبدو عليها الوقار وكانت تقرا القرآن بصوت مسموع أشاع فيها الطمانينة.. بالجهة الأخرى جلست فتاة صغيرة قد تكون في العشرين أو اقل ببنطلون ضيق وبلوزة تكشف اكثر مما تغطي وكانت تتحدث في هاتفها النقال بصوت هامس وتعبير هائم...اقتربت الساعة من العاشرة ولم يحن دورها بعد . ..وبدأت سناء تحس بالتوتر وهي تراقب المجموعات الداخلة التي تباينت ردود فعلها بين الفرحة الغامرة والحزن الشديد بينما ارتسم القلق والتوتر على ملامح كل المجموعات الخارجة ...وتعالى صوت الموظفة في الميكرفون الداخلي لتعلن اسم الممتحنات المطلوبات للخروج إلى الساحة ودق قلب سناء بعنف عند سماع اسمها ..فأصابها الوهن وتداخلت أطرافها في بعضها البعض خصوصا عندما اكتشفت أن المدربة التي ترأس مجموعتها هي تلك المرأة البغيضة التي يرهبها الجميع لصرامتها الزائدة عن الحد ما جعل الجميع يتمنى أن لا يكون ضمن مجموعتها ... غامت عينا سناء وتيقنت من الفشل هذه المرة أيضاً تجمدت حركتها حتى سمعت اسمها مرة أخرى فاضطرت أن تسرع خصوصا بعد أن رمقتها المدربة بنظرة قاسية ... في الطريق أغلقت الهاتف النقال .. وبينما كانت تعيده داخل الحقيبة اصطدمت يدها بقنينة العطر فتوقفت في منتصف الطريق .. أحست كأنها عثرت على كنز .. هذا هو ما تحتاجه لتهدا نفسها وتستعيد ثقتها في قدراتها كسائقة بارعة كما أكدّت لها مدربتها اكثر من مرة .. وبيد مرتعشة تناولت القنينة وحاولت فتح الغطاء المحكم وفجأة انزلق العطر من يدها ليقع على الأرض محدثا دويا كبيرا ... وللحظة عم الصمت التام أرجاء المكان واتجهت النظرات إلى سناء التي شعرت بالحرج وتمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها ... ومن ثم فاحت رائحة العطر القوية وانتشرت في كل في القاعة المزدحمة ... بدا وكأن عصا سحرية مست المكان ..جالت نظرات سناء بارتباك في القاعة وهي تقدم اعتذاراً صامتاً عن الفوضى التي أحدثتها لتقابلها نظرات مليئة بالفرح والدهشة .. فقد تغلغلت رائحة العطر البديعة داخل الأنوف لتحدث أثراً غير متوقع نظر إليها البعض بتعاطف خفي .. تناثرت الابتسامات .. تبخر التوتر مع القطرات المسكوبة على الأرض ..اعتدلت الجلسات وارتفعت الرؤوس .. سكتت أصوات النحيب المكبوت .. نظرت سناء تجاه المدربة البغيضة ولدهشتها الشديدة وجدت أن ملامح الصرامة اختفت عن وجهها لتعلوه شبه ابتسامة كانت كافية لتبدد الوجوم من وجه سناء ... يا الله ما اجمل تأثير العطر على الناس هكذا فكرت بحبور ...انحنت على الأرض لتزيل الزجاج المكسور فنادتها إحدى الموظفات أن تترك المهمة لعاملة التنظيف ... فاعتدلت ونظرت إلى الجميع بابتسامة عريضة جعلت وجهها الجميل يشرق .. وبادلتها الكثيرات الابتسامة .. وهمست لها السيدة التي كانت تقرا القرآن بلهجة مصرية صميمة
" معلش يا بنتي ولا يهمك خدت الشر وراحت وربنا يعوضك عنها " تمتمت سناء بكلمات شكر خافتة وسارت باتجاه المجموعة التي تنتظرها .. استوقفتها إحدى الفتيات لتسألها : لو سمحتي شو اسم عطرك ومن وين أحصله ؟ فردت عليها بخفة : اسمه" أوكسجين من دار لانفان بتلاقيه في أي محل عطور بس لو عاوزة الأصلي سيري باريس غاليري" ثم أسرعت إلى الخارج لتجد الجميع يقف أمام السيارة وتقدمت بثقة إلى المقعد الأمامي الذي تتفادى كل ممتحنة الجلوس عليه أولاً عليه حتى تتعود على الوضع وتتعلم من أخطاء من تسبقها ..قالت لها المدربة بلهجة ودودة : ها الزولة انتي اليوم بتكونين أول واحدة ؟ موب خايفة ؟ردت سناء بثقة : إنشاء الله اليوم باسوق كويس..جلست على مقعد السائق .. ربطت حزام الأمان...عدلّت وضع المرآة الأمامية بينما كانت الجانبية في وضع مناسب ... وفي سرها كانت تتمتم بآيات من القرآن الكريم صّلت على الحبيب المصطفى ..وضعت يديها برصانة على عجلة القيادة .. غيرت ناقل الحركة .. أنزلت فرامل اليد وبدأت تسير بحذر ..كانت رائحة العطر تملا الجو وتهدئ الخواطر القلقة كان الجميع يراقب سناء بانتباه وحذر .. أما هي فكانت تراقب الطريق بعد أن وصلت إلى تقاطع الشارع الرئيسي خارج مبنى المرور .. وبحركة مألوفة نظرت يمينا ويسارا ثم انطلقت ...كانت قيادتها اكثر من جيدة .. وبرغم محاولات المدربة المستميتة لإرباكها إلا أنها ظلت متمكنة من قيادتها مليئة بروح عطرها الذي انكسر ليجبر روحها .. " سيري يمين ..سيري يسار .. لفي الدوّار كامل .. اعملي يو تيرن " ظلت التعليمات تنهمر عليها ويديها تطوّع عجلة القيادة بمهارة غريبة ..واخيرا نظرت إليها المدربة وقالت : صفي السيارة على جنب وانزلي .. بهدوء أوقفت السيارة على جانب الطريق وعمدت إلى تشغيل الإشارة المزدوجة ونزلت كأنها تطير ..جلست في المقعد الخلفي والأخريات ينظرن إليها بغبطة وحسد .. لم تعي بأي شئ حتى انتهى الجميع من دورهم ووصلوا إلى مركز المرور مرة أخرى .. وعندما دلفت إلى القاعة كانت بعض الوجوه قد تغيرت .. والبقية التي ما زالت موجودة ابتسمن لها بود فجلست في أول مقعد صادفها بانتظار النتيجة ..وبعد عشر دقائق سمعت اسمها فقامت وبخطى ثابتة اتجهت إلى الكاونتر لتقول لها الموظفة : مبروك نجحتي سيري المكتب الثاني لاستخراج الرخصة ... وسالت دموعها بغزارة وعرفت أن اصل ثلاث فتيات ممن خضن معها التجربة نجحن .. وكانت سابقة لان المدربة المعروفة بالصرامة لا تمنح النجاح لاكثر من ممتحنة واحدة في كل محاولة ومرة أخرى فكرت سناء لا بد انه تأثير العطر السحري عليها..أكملت الاجراءت واستلمت الرخصة .. صادرة من مرور دبي وصالحة لمدة عشرة أعوام
ملحوظة : سناء تهوى القيادة السريعة وتقود سيارتها الصغيرة الحمراء ببراعة تحسد عليها وسط زحمة المرور في شوارع دبي ..



1 comment:

abubakr said...

في سنوات كثيرة سابقة كان الحصول علي رخصة سواقة سيارة ياخذ اعواما في دبي سمعت عن الذي انتظر اكثر من عقد زمان وعرفت كثيرون انتظرو سنوات وكانت تذبح الذبائح حين الحصول عليها ..ذاك الزمان لم تكن دار لانفان قد اتت ب"اوكسجين " سوء طالع هؤلاء الذين انتظرو اعواما ام حسن طالع سناء اتي باوكسجين اليوم.. رائعة الحرف يا سناء ورشة عطر لكل حروفك