Followers

Friday, February 27, 2009

اشياء مبعثرة


** عـطــر الأمـاكــن ... والحنين إلى أشياء تافهة ....

ما أجمل الحديث عن الروائح .. جميلها وقبيحها ... وتأثيرها السحري على حواسنا وذاكرتنا ... قدرتها على نقلنا من مكان إلى آخر ونحن لا نزال في نفس الموقع المادي ... يقال أن الذاكرة الحسية هي الأقوى لارتباطها بذكرى تتجدد بتجدد أسبابها ...
أحيانا أكون في عجلة من أمري .. تتسابق خطواتي مع الرصيف في آلية فرضتها علينا ظروف الحياة وإيقاعها السريع ... فجأة .. ومن وسط زحام المتدافعين تغزو انفي رائحة عطر مألوف .. فتتثاقل خطواتي إلى حد التوقف التام وأنا ابحث بلهفة عن صاحبته .. تدور نظراتي بيأس في الجموع التي أصبحت تدور من حولي بعد أن تسمرت مكاني بفعل انجرافي مع ذكريات مكان آخر وزمان آخر كان فيه لهذا العطر حضور قوي ...أفيق من جمودي وهدير ذكريات على دفعة قوية من عابر مغتاظ .. فأواصل طريقي تتبعني الرائحة والذكريات ...
الروائح تولّد بداخلي حنين إلى أشياء مبعثرة .. غير مترابطة ...
أينما شممت رائحة ( المحلبية ) أو ( الحنة ) أو ( الشاف المحترق ) أعود فورا إلى بيتنا ... وغرفة أمي بدفئها المميز في أمسيات الشتاء
الطويلة .. أحس كأنني ما زلت معها .. انظر بإشفاق إلى قدميها المرفوعتين فوق ( المبخر ) ذو الجمرات العنيدة التماسا لطرد برد الحناء ...

** رائحة ( الفول ) تأخذني إلى ناصية شارعنا حيث الدكان الصغير الذي تتربع في زاويته ( القدرة ) بحملها الحنين على البطن والجيب ... وأعود طفلة بضفائر وأقدام حافية معفرة تحمل ( جك ) البلاستيك بيد .. والنقود بيد أخرى .. تنتظر دورها بقلة صبر .. وعندما تحصل على نصيبها من الحبات البنية الشهية .. تمسكها بحرص بين يديها الصغيرتين وهي تسعى جاهدة لتفادي اللسعات الحارة ...

** رائحة اللقيمات الحار تنقلني إلى بوابة كلية التجارة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ... وجلستي المطمئنة في احد ( بنابر ) بائعة الشاي التي تراصت حولها بفوضى منظمة .. بعضها نسج بالحبال الخشنة .. وبعضها بسيور البلاستيك الأزرق المتداخل مع الأبيض ... في يدي كوب الشاي باللبن .. وأمامي على الطاولة الخشبية الصغيرة صحن ألمنيوم قديم به قطع اللقيمات المرشوش بالسكر الناعم ... أحيانا .. وعندما يفرغ الجيب .. يصبح لقيمات الصباح بديلاً لوجبة الفطور ويقيني عذاب الجوع حتى مواعيد عودتي إلى المنزل ظهراً ...

** رائحة الثوم المحمر في الزيت الحار ( القدحة ) تذكرني ببيت جدي لامي الحاج نجار عبد العظيم ( رحمه الله ) والطبيخ الشهي من يدي جدتي الحاجة فهيمه الريقي ( رحمها الله ) اثناء زيارتنا الأسبوعية إلى حي ( حلة حمد ) ببحري والتي لابد فيها من طبق الملوخية الشهير وقرينه الأرز الناصع البياض ...

** حتى الروائح النتنة ( والعياذ بالله ) لها ذكرياتها التي ترتبط بها .. وهذه تكون أكثر التصاقا لما تسببه من أذى نفسي يكاد يصل عندي إلى درجة المرض ... لا زلت اذكر حتى الآن رائحة ( جردل العيفونة ) في منزل خالتي بحي ( الدناقلة شمال ) وهتافنا نحن الصغار عند وصول السيارة الكبيرة بعمالها الذين يتولون رفع أبواب الحديد الصغيرة وسحب ( الجردل ) الملئ بالفضلات وتفريغه في مؤخرة السيارة التي تتحرك ببطء وهي تنشر رائحتها التي أظنها ما تزال عالقة بأنفي .. وكلما أتتني رائحة مشابهة .. تعيد إلي ذكريات طفولة شقية وممتعة قضيتها في تلك الساحة المربعة ببيوتها البسيطة ...

غريب هو ارتباط الروائح بالأمكنة في ذاكرتنا ... هذا الارتباط الغامض الذي يشعرنا بالحنين إلى أشياء تبدو تافهة في نظر البعض .. لكنها بالنسبة لأصحابها .. معين لا ينضب من ذكريات مميزة ..

No comments: