Followers

Blog Archive

Saturday, August 19, 2006

تداعيات خطا صغير ( قصة قصيرة )..

كانت حزمة من شعاع الشمس تتحرك ببطء وهي تناور حواجز الأسمنت التي تعيقها ... ثم تسللت من بين فروع شجرة النيم العجوز الرابضة بخيلاء أمام البناء الحديث .. حتى تمركزت في موقعها المعتاد في مثل هذا الوقت يومياً ... اخترقت النافذة شبه المفتوحة بإصرار ووقع الضوء مباشرة على وجه يغطّ في نوم عميق وترتسم على ملامحه شبه ابتسامة ... رمشت العينان بانزعاج من تأثير دفقه الحرارة المفاجئة ثم فتحتا بتمهل كسول لتقعا مباشرة على الساعة الصغيرة التي تجاور السرير وكانت عقاربها تشير إلى الثامنة والنصف صباحاً.. اختفت من الوجه النعس شبه الابتسامة وانتقلت نظراته إلى الساعة الحائطية الكبيرة في مواجهة السرير ليتأكد من التوقيت ... فإذا بها الثامنة والنصف ... ودقيقتان ..قفز من السرير وهو يستر جسده شبه العاري وكاد يتعثر بالفراش الصغير المسجي على الأرض محتضنا ابنته الصغيرة التي أصبحت كثيرة الحركة وازداد فضولها لاستكشاف ما حولها وكثرت محاولاتها للخروج من اسر سريرها الخشبي الصغير مما جعل أمها تقرر وضعها على الأرض خوفا عليها من السقوط ... كانت قرة عينه ... طفلة رقيقة كنسمة هواء بارد ..جميلة كالملاك وتحمل الكثير من ملامح أمها ... تحولت نظراته تلقائياً إلى زوجته النائمة بهدوء ووجها يشع بالرضى ..مما جعله يستعيد ذكريات الليلة السابقة المميزة ...
بالأمس أكملت صغيرتهما عاماً كاملاً..كان احتفالاً شديد الخصوصية ضم أفراد الأسرة الثلاثة فقط وبعد أن غلب التعب صاحبة العيد ونامت ... واصل الكبار الاحتفال حتى مطلع الفجر .. كانت لحظات لا تقدر بثمن ... وهذا ما جعله ينسى ضبط المنبه كما كان يفعل كل ليلة ... ذكرى المنبه إعادته إلى الواقع فدلف إلى الحمام الملحق بغرفة النوم وهو يفكر بسعادة " لا يمكن أن تكون الحياة اجمل مما هي الآن " ...
اغتسل على عجل .. ارتدى ملابسه كيفما اتفق .. كان يحس بعطش بالغ فاتجه إلى المطبخ وهو في طريقه إلى الباب الخارجي ... ملا الكوب وتجرعه دفعة واحدة حتى كاد يختنق .. وفي الحال أحس بألم حاد في أسنانه ... كأن سلكاً كهربائياً عارياً قد أوصل بفمه ... لقد أنسته العجلة أن يمزج الماء البارد بآخر حار حتى يتفادى حساسية أسنانه المفرطة تجاه المشروبات الباردة .. ترنح من فرط الألم أطلق آهة طويلة وهو يضغط بيده على جانب فمه ... انزلق كوب الماء من يده ..سقط على الأرض وتهشم إلى عشرات القطع الصغيرة .. أطلق سبابا مكتوماً من بين شفيته المطبقتين .. وبسرعة احضر المكنسة وجمع ما أمكنه من القطع المتناثرة .. وقعت عينه على ساعة الحائط ووجدها قد شارفت على التاسعة ...رمى المكنسة وترك بقية الفوضى لزوجته عندما تستيقظ ...
ارتفعت صرخات مدوية متألمة هزت أركان البيت الصغير ... ظنت الزوجة أنها تحلم أو بالأصح تعيش كابوساً فقد كان الصوت بعيداً وكأنه يأتي من بئر عميق .. كانت أحيانا تعاني من كوابيس تزورها من وقت لآخر يعززها خوفها على صغيرتها التي أتت بعد فترة علاج طويلة فحملتها بحرص وخوف خاصة بعد سقوط ثلاث أجنة قبلها ... جاهدت كي تفتح عيناها المتعبة من اثر السهر وبنظرة واحدة إلى الفراش الصغير الفارغ بجانب السرير أيقنت أنها لا تحلم وان الصرخات حقيقية... ركضت بجنون إلى مصدر الصوت وعندما رأت المشهد أمامها أدركت أن أسوا كوابيسها قد تحقق ... على أرضية المطبخ الرخامية وجدت صغيرتها وقد أصبحت كتلة حمراء اللون من رأسها وحتى أخمص قدميها ... يبدو أن الصغيرة استيقظت وبدأت تمارس هوايتها في الاستكشاف ودفعها فضولها إلى المطبخ ...
جثت ألام على ركبتيها وحملت صغيرتها الدامية وضمتها إلى صدرها بعنف دون أن تعي أنها بفعلتها هذه قد زادت معاناة ابنتها حيث تعمقت الشظايا اكثر في الجلد البض وازداد صراخ الصغيرة و أحست ألام بأنها على حافة الجنون فحملتها وركضت بها إلى الشارع وهي تصرخ غير آبهة بقدميها المليئتين بالشظايا وهما تطبعان آثار خطواتها خلفها بلون احمر قان ...
تجمع الجيران على صرخات ألام المكلومة التي كانت تركض بغلالة نومها الشفافة وهي تحمل كتلة حمراء خمدت حركتها إلا من انتفاضات متباعدة .. خلع أحدهم جلبابه وستر به جسد ألام بينما تطوع آخر بنقل الجميع إلى اقرب مستشفى ...
كان الطبيب الشاب حديث التخرج يسير في الممرات مزهواً بوسامته الملحوظة رافعاً يده في مستوى نظره ويتأمل بفرح الدبلة الفضية اللامعة في إصبعه وهو يفكر " لا يمكن أن تكون الحياة اجمل مما هي الآن " فقد حصل على شهادته من جامعة مرموقة وحصل على الوظيفة في هذا المستشفى الاستثماري براتب فاق كل توقعاته وأحلامه ... كما عقد قرآنه على إحدى زميلاته منذ أسبوع ويستعد لزواجه القريب ... كانت خطواته متناغمة مع صوت الصفير الصادر من شفتيه المبتسمتين .. عندما أتى النداء العاجل عبر المايكرفون الداخلي توقف عن الصفير وحث خطاه باتجاه غرفة الطوارئ .. وصل مقطوع الأنفاس واصطدمت عيناه بكتلتين من الدماء ملتحمتين بانهيار .. سارع واقتلع الطفلة التي كانت تطلق أصوات خافتة من بين يدي ألام الداميتين .. وفور تخليها عن ابنتها سقطت فاقدة الوعي وقدميها تنزف بغزارة ...
استعان الطبيب الشاب بكل مهارته حتى يستطيع التعامل مع الصغيرة التي اصبح جسدها أشبه ما يكون بحيوان القنفذ وبدلا عن الأشواك انغرزت شظايا الزجاج في كل مكان ... حدد فصيلة دمها وطلب كمية كبيرة من بنك الدم التابع للمستشفى ثم حقنها بالبنسلين خوفا من أية مضاعفات تلوث محتمل ...
بعد اقل من نصف ساعة لفظت الطفلة أنفاسها بين يدي الطبيب المرعوب ... لقد كانت تعاني من حساسية مفرطة تجاه البنسلين ... أصيبت ألام بانهيار عصبي حاد ... ونجا الطبيب من محاولة قتل مؤكدة على يد الأب المصدوم الذي أتى على عجل بعد أن ابلغه الجيران بما أصاب أسرته ...
خضع الطبيب لتحقيق في المجلس الطبي واتهم بالإهمال الذي أدى للوفاة ...لم تشفع له أقواله بان ألام لم تبلغه بحساسية الطفلة تجاه البنسلين وانه تصرف بسرعة ودون أن يجري اختبار حساسية خوفا على حياة الطفلة التي فقدت الكثير من الدماء ... صدر قرار بإيقافه عن العمل وسحب رخصته مؤقتاً ... أخطرته إدارة المستشفى بعدم رغبتها في وجوده حتى بعد السماح له بالعودة لممارسة المهنة خوفا على سمعة المستشفى...
في المنزل الصغير وبعد أن انفض المعزون اصبح الصمت ثالث الزوجين ... وعندما استعادا القدرة على الكلام اختفى الهمس وساد الصراخ ... اصبح المنزل ساحة حرب يتبادل فيها الطرفان قذائف الاتهامات بالإهمال الذي أضاع الصغيرة .. وأضاع معها التفاهم والرغبة في الحياة المشتركة ... ويوماً بعد يوم هرب الحب تاركا الغضب والإحباط والكراهية تعشش في المنزل الصغير ... وفي أحد الأيام عاد الزوج من عمله ليجد المنزل خاليا إلا من ورقة صغيرة تخبره فيها من كانت حبيبته بأنها لم تعد تطيق الحياة معه ... وأنها قررت العودة إلى بيت أهلها في انتظار ورقة الطلاق ...
عندما وصلتها الورقة تاملتها طويلاً ثم بدأت تضحك ... ضحكات هستيرية ... عالية ... متواصلة ... تتخللها فترات بكاء حار ... ولم تفلح جهود الأطباء ولا الشيوخ في إسكاتها ...حتى الآن ...
دخل الطبيب الشاب في حالة اكتئاب عميق بعد أن تخلت عنه خطيبته بدعوى أن المستقبل معه لم يعد مضموناً ... قلّت فترات نومه وصار عقله كأتون ملتهب ... اصبح يكتب لنفسه وصفات الحبوب المنومة على أوراق المستشفى التي ما زالت بحوزته ويصرفها من الصيدليات البعيدة ... بعد فترة اعتاد جسده على أقوى الجرعات ولم تعد تجدي فتيلاً ... صار صباحه عذاب وليله جحيم ..
تحالف ارقه مع إدمانه والإحساس بالذنب لموت الطفلة ليولدوا لديه شعوراً بالظلم والاضطهاد والرغبة العنيفة في الانتقام ... انصبّ كل تفكيره فى كيفية تدبير خطة للانتقام من المستشفى التي دمرت مستقبله ... لا بد أن تدفع ثمن ما يحدث له .. لابد أن يدمرها حتى لا تظل شوكة مغروسة في قلبه كلما مر بالشارع ورآها ...
كان لانفجار غرفة حفظ قوارير غاز الأوكسجين دوي هائل اهتزت له المنطقة ... ساعدت الأدوية والكيماويات الموجودة في المعمل والصيدليات والمخازن في استعار النيران وانتشارها ... هرب من هرب ... وأصيب من أصيب ... كانت حصيلة القتلى اثنان وستون جثة معظمها مشوه بطريقة يصعب معها معرفتهم ... بعد اطفاء النيران ومن بين الركام ظهرت يد احترقت عن آخرها إلا إصبع مزين بدبلة فضية تجنبتها النيران بطريقة غريبة .
تصدر الخبر صفحات الصحف المحلية والعالمية .. واصبح المادة الإخبارية المفضلة بسبب وفاة عشرة من المع الأطباء البريطانيين في الانفجار ... كانوا يمثلون وفد زائر للمستشفى لإجراء بعض العمليات النادرة في مختلف التخصصات .. لم يتم التعرف على الجثث إلا بعد إجراء اختبارات الحمض النووي ... حرصت الصحف البريطانية على نشر الصور المرعبة للجثث المتفحمة ولعبت دوراً فعالاً في إطلاق العبارات الموحية بان ما حدث كان عملاً إرهابيا متعمدا قصد به الأطباء البريطانيون دون غيرهم ...
برغم محاولات الحكومة السودانية نفي الاحتمال إلا أن الصحافة كانت قد شحنت الرأي العام البريطاني بكم هائل من محفزات العداء والتطرف ... ومع ازدياد الضغوط على الحكومة لاتخاذ خطوة انتقامية خصوصا بعد فشل فريق المحققين السودانيين في معرفة المتسببين بالحادث ... قررت بريطانيا إغلاق سفارتها بالخرطوم وسحب جميع رعاياها ...
لكن يبدو أن الإجراء لم يكن كافيا لحماة التطرف وزارعي الفتنة .. ازدادت الضغوط واصبح الابتزاز العاطفي سمة الصحف التي تفننت في نشر صور الجثث المتفحمة وتذكير الحكومة بان كل واحد ممن قتلوا يساوى آلاف من السودانيين ... ولإسكات الأصوات و إرضاء اسر الأطباء المقتولين قررت الحكومة البريطانية في خطوة انتقامية متطرفة طرد جميع اللاجئين السودانيين الموجودين في الأراضي البريطانية وسحب الجوازات و أوراق الإقامة ممن حصلوا عليها وترحيلهم بالقوة إلى السودان .
وقع الخبر كالصاعقة على روؤس اللاجئين الذين لم يتوانوا عن إدانة الانفجار والتنديد بالحكومة وعدم مقدرتها على حماية ضيوفها ... شاركوا في الجنازات رفعوا الأعلام ووضعوا الورود ...
لقد ظنوا انهم قد اصبحوا من أهل البلد لكن اقل هبة ريح كشفت لهم بأنهم مجرد ضيوف غير مرغوب في وجودهم ..كان القرار بمثابة حكم إعدام للحالمين بعالم سعيد ...كيف يعودوا وقد احرقوا المراكب وتنازلوا عن الانتماء ومزقوا الهوية ؟؟
كان الإجماع على رفض القرار خيار ليس له بديل ... قرروا الاعتصام أمام مباني الأمم المتحدة ومفوضية شئون اللاجئين ومنظمات العون الإنساني وحقوق الإنسان .. أطلقوا نداءات طلب المساندة من جميع اللاجئين في العالم ... جمعوا التواقيع التي تدين قرار الترحيل القسري ...
كان ما حدث هبة من السماء لرافضي وجود اللاجئين في بلادهم وارتفعت مرة أخرى الأصوات التي تنادي بطرد هؤلاء الغوغاء الذين أتوا كالجراد فاستولوا على الوظائف والمساكن وعوائد الضرائب ... وعلى جنسية لا يستحقونها ..وتفانى أنصار العنصرية في تهويل عيوب من أسموهم بالدخلاء واتهموهم بتدمير المجتمعات المتطورة بأفكارهم المتطرفة وسلوكهم الهمجي الفظّ ... وانتقلت المواجهات بين الطرفين من ساحات الجرائد إلى الساحات العامة ... لم يعد أي شخص يحمل سمات العروبة أو الإسلام أو اللجوء يستطيع السير آمناً في الشوارع .. تحالف اللاجئين للدفاع عن أنفسهم ... كونوا جماعات مسلحة و أصبحت المواجهات والمعارك أسلوب حياة ...
انفتحت أبواب الجحيم في كل الأماكن التي يوجد بها لاجئون في العالم ... وبعد أن كان هؤلاء البؤساء يعتقدون بأنهم قد فروا من جحيم بلادهم إلى الأبد ... فإذا بالجحيم يأتي إليهم زاحفاً .. واصبحوا يعيشون في عمقه ... فقد تزايد العنف وتمادى الجميع في إظهار عداءهم لبعضهم البعض ... هل هي نذر حرب عالمية ثالثة ؟؟!!! من يدري ؟؟
فقد تقوم الحرب لأي سبب تافه حتى لو كان خطأ صغير غير مقصود قام به مواطن عادي في إحدى دول العالم الثالث ...عندما نسى أن يضع مؤقت التنبيه فاستيقظ متأخرا ...وتوالت الأحداث عاصفة .

No comments: